للذئبِ في شعرنا العربي القديم حكاياتُ كثيرةٌ وجميلة يمكن لباحثٍ رصينٍ أن يضعَ فيها كتاباً ضخماً؛ وقد حاولتُ أن أفعلَ ذات يوم، لكن نفسي كان قصيراً، فلم يتجاوز ما درستُه ثلاثينَ شاعراً وقصيدةً، من بينها قصيدةٌ جميلةٌ للمُرَقِّش الأكبر، وهو شاعرٌ جاهليٌ فحل، شعرُهُ من الطبقة الأولى وقد ضاع معظمُه، عُرِف عَنهُ أنّه من متّيمي العرب وعشّاقهم وفرسانهم الشجعان، كان لَهُ موقعٌ في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب، وبأس وشجاعة ونجدة وتقدّم في المشاهد، ونكاية في العدو وحسن أثر.
أحبّ المرقّش امرأةً تدعى أسماء حُبّاً شديداً، فحَفل شعرُهُ بمظاهر هذا الحُب، الذي قدّمته رقيقَ الحاشية صادقاً مولعاً بالطبيعةِ ومشاهِدها، حتى الأوابد منها والوحوش؛ تزوّجت أسماءُ رجلاً من بني مُراد، فمرضَ المرقّشُ زمناً، ثُمَّ قصَدَها فماتَ في حَيّها، قيلَ نحو سنة 75 قبل الهجرة، نحو 550 للميلاد.
وفي قصيدةٍ يفتتحها المُرقّش الأكبر بالوقوفِ على أطلال أسماء هذهِ وقد غادرت، ناعياً وحشةَ المكانِ، وتبدّل حالِه وقسوةَ العيش فيه يقدّم لنا صورةً أخّاذة لزيارة الذئب:
ولمّا أضأنا النار عِنْدَ شوائنا عرانا عليها أطْلَسُ اللون بائسُ
نبذتُ إليهِ حُزَّةً من شِوائنا حياءً وما فُحشي على مَنْ أُجالسُ
فآضَ بها جذلانَ ينفُضُ رأسَهُ كما آبَ بالنهبِ الكميُّ المحُالِسُ
لقد ترك الشاعِرُ تلك الأطلال ومنزل الضنك كما عَبّر في قصيدته تلك:
ومنزلُ ضنكِ لا أريدُ مَبيتَهُ كأني بهِ من شدّة الرَّوعِ آنِسُ
وانطلق على ناقتِهِ في ليلٍ موحشٍ تصاعدَت فيه أصواتُ البوم كالنواقيس:
وتسمَعُ تَزْقاءً من البوم حولنا كما ضُربت بعدَ الهدوءِ النواقس
زقوُ بومٍ لعلّهُ ينذرُ بأن رحلة الشاعر صوبَ ديار أسماء الجديدة هي رحلةٌ باتجاه الموت، لكنّ الشاعرَ الفارس العاشق لا يهتم لذلك هاهو ذا ينزلُ عن راحلتِهِ ويشعلُ النار ويعدُّ الشواء، فيستضيفُهُ الذئبُ، ذئبٌ أغبرُ اللون إلى سواد، حزين وبائس، فيحسُّ المُضيفُ -وهو ابن الصحراء – بحالِ ضيفه، وتأبى عليهِ عاداتُ قومِه أن ينهرَه، أو يسيءَ مُعاملته وهو على ما هو عليهِ من جوعٍ وسغبٍ وبؤسٍ، فيقتطعُ لَهُ من شوائِهِ حُزَّةً ويرميها إليهِ فيقبضُ عليها، ويرجعُ بها سعيداً، يهزُّ رأسَهُ محبوراً، وأمام هذا المشهد يسترفدُ المرقّش قاموسُ فروسيّته، فيستعيرُ لهذا الذئبِ صورةَ الفارس الشجاعِ يكمي شجاعَتَهُ ويستُرها لوقت الحاجة، فيؤوبُ بغنيمَتِهِ بعدَ أن ثَبتَ في القتالِ واستحقَّ الفوز… الشاعِرُ يُعلي من شأن الذئب هنا حين يخلَعَ عليهِ هذا الوصف.. ولو كان لا ينظُرُ إليه باحترامٍ وتقدير لوَجَدَ لهُ وصفاً آخر.. ثمّ دعونا نغوص على أبعادِ هذه الصورة أعمقَ فأعمق؛ فإذا بلغنا لا وعيَ الشاعر ألا نستطيع أن نرى في مشهَدِ هذا الذئب الذي وفّقَ في مأربِه، وعادَ فائِزاً كفارسٍ شجاع، مَا يأمَل الشاعر في تحقيقهِ لنفسه مع أسماء، ألا يقصدُ ديارها وفي نفسِهِ أملٌ كبيرٌ في استعادتها والعودة بها (جذلان ينفضُ رأسَهُ) فَرَحاً.
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 3-11-2019
الرقم: 17113