تحدثت الزاوية السابقة عن الخطأ الذي ورد في أحد الإصدارات الثقافية المحلية، حين اعتُبِرَ الفنان داوود القرم أقدم فنان سوري، لمجرد أن لوحته (السيد الزنانيري) هي أقدم لوحة في جناح الفن الحديث في متحف دمشق الوطني، في حين أن الفنان القرم لبناني وليس سورياً.
يعتبر داوود القرم (1852- 1930) رائد فن التصوير الزيتي في لبنان، وهو أول من درس قواعده وأصوله، ولد في (غوسطا – كسروان) ولفتت موهبته الفنية وهو في العاشرة من عمره انتباه الآباء اليسوعيين الذين دعوه لتعليم الرسم في مدارسهم مقابل تعليمه اللغتين الفرنسية والإيطالية. وفي السادسة عشر من عمره سافر إلى روما لمتابعة تحصيله الفني حيث حقق نجاحات كثيرة في مجال رسم الوجهيات (البورتريه)، فتم اعتماده كرسام للعائلة المالكة البلجيكية، كما رسم لوحة شهيرة للبابا (بيوس التاسع). وتنقل بعد ذلك بين لبنان وسورية وفلسطين ومصر والعراق وتركيا حيث صور عدداً من كبار الأعيان والحكام، ومن هؤلاء السيد الزنانيري، شهبندر التجار في دمشق، إضافة إلى مجموعة كبيرة من اللوحات الكنسية. تتلمذ على يده (جبران خليل جبران). نال عدة أوسمة من لبنان ومصر وفرنسا والفاتيكان، والدولة العثمانية، ولم تعتبره أي من هذه الدول (باستثنائنا) فناناً منها.
من جانب آخر، تلتقي معظم الكتابات التاريخية عند اعتبار الفنان السوري توفيق طارق الأقدم في الفن التشكيلي السوري الحديث، وعلى هذا الأساس اعتُبِرَ رائداً له، إلا أنه لا يزال يستحق دراسة موثقة عن سيرته، وأعماله. ونحن نحتاج ذلك. وربما هذا ما دفع الناقد الدكتور عبد العزيز علون للعمل على إنجاز كتاب موثق عنه لكن الدكتور علون (للأسف) رحل عن دنيانا قبل أن يتم مشروعه المهم، وعسى أن يقوم أحد بذلك يوماً. وكانت أنجزت مطلع ستينيات القرن الماضي خطوة مهمة لحفظ إرث توفيق طارق حين تم إحداث متحف باسمه، وفي واقع الحال فإن متحف توفيق طارق لم يكن متحفاً بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما قاعة خاصة في مركز الفنون التشكيلية (مركز وليد عزت للفنون التطبيقية حالياً) جمع فيها الدكتور عفيف البهنسي (مدير الفنون الجميلة آنذاك) ما استطاع الوصول إليه من لوحات الفنان الرائد، فاستعار خمس لوحات كبيرة من مجمع اللغة العربية ووضعها في القاعة. وكان لدى ابنة (توفيق طارق) اللوحة الشهيرة (معركة حطين) فاشتراها منها (بمبلغ 3500 ليرة) وقدمت له معها أربع لوحات صغيرة كهدية، فاعتبرها من أصل المبلغ المدفوع، وتم تسجيلها في محضر الشراء، ووُضعت جميعاً في قاعة المتحف. وبعد فترة اعترض أحد المفتشين على الأمر بحجة أن المكان غير مؤهل ليكون متحفاً، ولم يتراجع عن موقفه أمام وجهة نظر مدير الفنون الجميلة بأن هناك حراسة للمكان وأنهم باستضافة اللوحات، وإصدار كتيب عنها، عملوا على تكريم الفنان، فتم إغلاق المتحف، وأعيدت اللوحات المستعارة إلى مجمع اللغة العربية، وبقيت اللوحات الأربع الصغيرة في مديرية الفنون. أما اللوحة الكبيرة (معركة حطين) فقد أهدتها وزارة الثقافة فيما بعد إلى السيد الرئيس حافظ الأسد الذي أمر بتعليقها بقاعة الاستقبال في القصر الجمهوري، لتصبح بعد وقت قصير إحدى أشهر اللوحات العربية. وقد شاع بعد ذلك أن وزير الثقافة حينذاك هو من أمر بإغلاق المتحف بحجة واهية، وكثيراً ما استخدمت هذه الحكاية الشائعة في ندوات ومحاضرات على أنها حقيقة متفق عليها، ولكن الأمر لم يكن كذلك، فالمتحف الذي أغلق بقرار وزيرٍ هو متحف الفنون الجميلة التابع لوزارة التربية، والذي أسسه وأداره الفنان ممدوح قشلان، ولا يرجع الالتباس لكون المتحفين أغلقا في فترة متقاربة فحسب (أواخر الستينيات)، وإنما لأن الوزير الذي أغلق متحف وزارة التربية كان قبل ذلك يرأس وزارة الثقافة التي يتبع لها متحف توفيق طارق.
لكن المؤلم أكثر من إغلاق متحف توفيق طارق (فلوحاته ما زالت محفوظة على كل حال) أن محتويات متحف وزارة التربية قد ألقيت في الشارع، فقط كي يتحول المكان إلى مكتب للوزير في موقعه الإداري التالي.
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 5 – 11-2019
رقم العدد : 17115