ذات يوم قال عنه الشاعر السوري أدونيس (إن ابداعه في تاريخ الحركة التشكيلية السورية, يمثل معيارية كلاسيكية عالية يؤرخ بها, ويقاس عليها, لا نعت يليق بإبداع فاتح المدرس, ويفصح عنه إلا الأسطوري).
إنه فاتح المدرس الفنان التشكيلي الذي حقق شهرة واسعة في حياته التي دامت سبعة وسبعين عاماً, هو مجموعة متكاملة من المواهب والخبرات، وأشبه بمكتبة ثقافية فكرية وأدبية وتشكيلية متنقلة، ومفتوحة لكل الباحثين والدارسين في مجالات الفنون الجميلة والتجارب الإنسانية الخاصة.
اليوم ليس غريباً على الهيئة العامة السورية للكتاب وضمن سلسلة «أعلام ومبدعون» الكتاب الشهري لليافعة أن تحتفي بالفن والإبداع, فكان كتابها (فاتح المدرّس) تأليف: حسن م.يوسف.. ففاتح المدرّس لم يكن رساماً موهوباً وحسب، بل كان مبدعاً شمولياً، يرتجل العزف على البيانو، ويكتب الشعر والقصة، يعزف مثلما يرسم، ويطبخ كما لو أنه يصنع لوحة.
يرى المدرّس أن العمل الفني من أعسر المهمات التي أخذها الإنسان على عاتقه، وهو يمضي قدماً على سلّم الحضارة المرتفع… إن هذه المهمة، مهمة تغيير شكل العالم، دفعت الفنان والعالم أن يعملا معاً.
حياته
ولد فاتح المدرس عام 1922 في قرية حريتا الواقعة في شمالي سورية, بالقرب من مدينة حلب, تعلق فاتح في طفولته بأمه وأعجب بها, حتى صار ينظر إليها كما لو أنها قطعة من المكان. حين دخل المدرسة الابتدائية اكتشف أستاذ الرسم شريف بيرقدار موهبة فاتح المتميزة, وأظهر فاتح مهارة في الرسم وميلاً إلى الموسيقا, إلا أن مواهبه هذه لم تلق أي تشجيع من أهله, وحين دخل المرحلة الثانوية ازدادت ممانعة أهله لاهتمامه بالرسم والموسيقا, لكن تلك الممانعة لم تزده إلا تعلقاً بالفن, وقد ساعدته الظروف في تنمية موهبته وإبقائها تتدفق من داخله كنبع صاف.
المدرّس ومارون عبود
سافر المدرس إلى لبنان لمتابعة دراسته في الجامعة الوطنية هناك, وفي عاليه تعرّف بالأديب العروبي مارون عبود الذي كان يدير الجامعة الوطنية آنذاك.. كان مارون معلماً وصحفياً وناقداً وكاتباً وشاعراً,وقد اكتشف بحسّه النقدي المواهب الأدبية والفنية التي يتمتع بها فاتح, فنشأت بينهما علاقة مميزة, هي أقرب إلى الصداقة, على الرغم من فارق العمر.
عقب تخرجه من الجامعة الوطنية عاد إلى مدينته, حيث عمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في ثانويات حلب, وبدأت مشاركاته الفنية في الرسم تظهر إلى جانب عدد من الفنانين الرواد, كما ظهرت اسهاماته الأدبية في الشعر والقصة التي كان ينشرها في الصحف والمجلات السورية.
مراحل تكوّن لوحة المدرّس
خَلقت تجربة المدرس حالة توازن نادرة في الفن العربي, فهي تجربة شخصية واقعية من غير أن تكون كذلك كلياً, وغير تجربة تجريدية من غير أن تكون كذلك تماماً, وهي تجربة مرحة من دون فرح, ومأساوية من دون كآبة.
في أحد لقاءاته وصف الأطوار التي تمر بها اللوحة بين يديه قائلا: أضع الخطوط الأولية للوحة, إما بالريشة وإما بالفحم, وهكذا أرى هيكلها العظمي, وهذا قابل للتغيير في أي لحظة, بعد ذلك يبدأ البحث عن اللون الملائم لتعبئة فراغات الهيكل العظمي.
كان فاتح ينظر إلى لوحاته كما لو أنها صفحات متتالية من دفتر ذكرياته, لذا يقول: ليس لدي عمل رسمته أفضل من عمل آخر لأن الثاني يتمم الأول وهكذا, فرؤى الإنسانية تشكل وحدة متكاملة مادتها الحادث النفسي الذاتي.. لذا يمكن القول كل لوحات المدرس تربطها مشيمة غير مرئية بعالمه الداخلي.
في الختام عاش المدرس حياته يحلم بكوخ صغير يبنيه بيديه على سفح جبل من الجبال الشمالية الغربية من سورية, وعندما سئل عمّا إذا كان قد فكّر بالهجرة قال: أما الهجرة فلم أفكر بها إطلاقاً, فالوطن ليس كلمة, وكذلك الله.
لم يتوقف الفنان المدرس عن الرسم في محترفه في ساحة النجمة بدمشق إلا قبل شهر واحد من رحيله في الثامن والعشرين من حزيران عام 1999م وقد شُيّع في جنازة مهيبة, ودفن بناء على وصيته في مقبرة الباب الصغير إلى جانب الشاعر الكبير الراحل نزار قباني.
عمار النعمة
ammaralnameh@hotmail.com
التاريخ: الخميس 7 – 11-2019
رقم العدد : 17117