ما تشهده بعض الأقطار العربية من حراك شعبي سواء في لبنان والعراق وفي الجزائر أم السودان وقبل ذلك في البحرين والمغرب ينبئ بثقافة تغيير سلمي عبر الآليات الديمقراطية والاحتجاج الشعبي النابع من قوى الداخل وفائض قوته الاجتماعية والطبقية مع غياب الآليات الديمقراطية والحياة البرلمانية الحقيقية وانسداد الأفق أمام قوى الرفض الشعبي، ما جعل الحوض السياسي المعطل أساساً جافاً وضحلاً وغياب حساسية سياسية حقيقية تثري الحياة الديمقراطية كل تلك العناصر تبرر إلى حد كبير ما تشهده بعض الأقطار العربية من حراك شعبي أنتج حالة تبشر بتحولات حقيقية في عملية إنتاج السلطة والبناء السياسي على وجه العموم.
لقد حاول العديد من الكتاب والمثقفين والساسة في أكثر من بلد عربي التمهيد لجهة التبرير أن عهد الثورات والاحتجاجات الشعبية قد أصبح من أفعال الماضي وتكريس ثقافة اليأس من إرادة الجماهير وقدرتها على إحداث التغيير بحكم الأدوات القمعية التي تمتلكها السلطة واستطالاتها مع قوى الخارج وما يشكله ذلك من عامل خوف وترهيب لدى الجماهير في رواية أقل ما يقال عنها أنها لا أخلاقية ولا تحترم مشاعر وإرادة المواطنين، ناهيك عن أنها لا تستقيم ومنطق التاريخ وصيرورة الأحداث الأمر الذي ثبت ضعفه وهزالته.
ولعل ما يجري ونتائجه العملية يضعنا أمام إرهاصات أولى لواقع عربي جديد ربما يؤدي لخرائط سياسية لم تكن معهودة وفلسفة حكم نواتها إرادة الشباب تجعل من سياقاتها خريطة طريق لمستقبل المنطقة التي عانت وما زالت من كل أشكال الديكتاتورية والتسلط والظلم تساوق مع إرهاب وتطرف غير مسبوق كاد يأتي على المجمعات الوطنية وعقدها الاجتماعي ويذهب بالسلم الوطني الأهلي وثقافة العيش المشترك.
إن القول بأن ما حدث ويحدث في لبنان والعراق وقبل ذلك في الجزائر والسودان يتعلق بأوضاع سيئة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وطغيان كل أشكال الفساد والاستلاب السياسي والارتهان للقوى الخارجية هو قول صحيح ولكن الصحيح أيضاً هو أن ما تطرحه قوى التغيير لا يتعلق بالبنى السياسية القائمة على مفاصل السلطة وإنما يمتد إلى عمق وجوهر النظام السياسي عبر فلسفته وأدواته وهنا تبدو التجارب القائمة في الكثير من بلداننا العربية حاضرة على طاولة الساعين للتغيير ولعل تحليل ما يجري في عالم اليوم لا يمكن فصله عن مندرجات العولمة وسياقاتها وإفرازاتها الخاصة وانعكاساتها الحادة والسلبية على طبقات المجتمع وتوسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وعدم القدرة أو الرغبة في جسرها بكل أدوات التدخل الحكومي وغيرها من أساليب ووسائل بهدف تخفيف التوترات الاجتماعية والهزات السياسية الناجمة عنها ولعل المفارقة هنا تكمن في كون الاحتجاجات على تداعيات العولمة علا صوتها في بلدان العالم المتقدم ونرى اليوم أكثر المتحمسين لسياقاتها هي جمهورية الصين الشعبية وبالمقابل نرى ترامب وفريقه الحكومي يسعون للحمائية بأشكالها المتعددة في نكوص يدعو للتساؤل حول مستقبل العلاقات الاقتصادية وسياسات الانفتاح والشركات العابرة للقومية وهي في صلب خطاب العولمة القائم على قاعدة عالم بلا حدود.
د. خلف علي المفتاح
التاريخ: الاثنين 18-11-2019
الرقم: 17125