عندما يحاكي الواقع الأسطورة

الملحق الثقافي-ناظم مهنا:

 ندبة أوديسيوس
يشير الناقد الألماني أريش آرباخ في كتابه النقدي «محاكاة الواقع كما يراه أدب الغرب»، الصادر عن وزارة الثقافة بدمشق عام (1998م)، ترجمة: محمد جديد والأب رفائيل خوري، إلى أوديسيوس بطل الأوديسا (الملحمة الهوميرية)، وإلى لحظة تعرّف قيّمة الدار العجوز «أويريكيلايا» إليه بعد عودته إلى الوطن من ندبةٍ في الفخذ، فهو كان رضيعها في غابر الأيام.
وكان الغريب العائد قد ظفر بعطف بنلوبي، وبناء على رغبته تأمر بنلوبي قيّمة الدار بغسل قدميه، كما كان مألوفاً في كل القصص القديمة، بوصفه واجب الضيافة الأول تجاه المسافر المتعب. تبادر أويريكيلايا إلى جلب الماء وخلط البارد بالساخن، وهي تتحدَّث محزونة مع الرجل عن سيد المنزل الغائب الذي لا ريب سنه كسن هذا الضيف، والذي ربما كان الآن مثله يتخبَّط هنا وهناك غريباً مسكيناً، وهي تلاحظ إلى أي حدٍّ يبدو الضيف مشابهاً له، على حين يتذكَّر أوديسيوس ندبته، ويجر نفسه بعيداً نحو الظلام، ليخفي عن بنلوبي على الأقل وسيلة التعرف غير المرغوب فيها بعد، والتي ما عاد ممكناً تجنبها الآن. ولم تكد العجوز تتلمس الندبة حتى تركت القدم ترتد ساقطة في الطست، في فزع ينطوي على الفرح، ويفيض الماء وتهم أن تنفجر بالصياح، ولكن أوديسيوس يستوقفها بكلمات خافتة من الملق والوعيد، فتتمالك نفسها وتكبت حركتها، أمَّا بنلوبي التي كان اهتمامها منصرفاً عن الحدث بتدبير من الآلهة أثينا، فلم تلحظ شيئاً.
ولنا هنا أن نتخيَّل مدة الانتظار، والحزن عند بنلوبي، ومدة الضياع والمشقَّات التي واجهها أوديسيوس حتى عاد إلى إيثاكا، والعثور عليه بعد أن كاد الأمل ينفد.
المهم هنا، أن الناقد آورباخ يستند إلى مراسلات غوته وشيلر حول العنصر التعويقي في القصائد الهوميرية، فهما يشيران إلى أن العنصر التعويقي الذي يعني المراوحة في المكان، هذا العنصر يقابل المأساوية.
ويرى آورباخ أن التعويق أو المراوحة في المكان ينشأ عن طريق الإضافات. وفي  رأينا أننا نجد مثل هذه المراوحة في المكان في الروايات العالمية، وفي الأدب السردي الحديث الذي يسترسل طويلاً في التفاصيل.
النيكروفيليا
من مصطلحات علم النفس التحليلي. فهو مرض نفسي، من مظاهره الأكثر بروزاً؛ الرغبة التي لا تقاوم في مضاجعة الموتى، أو العبث بعظام الموتى، والهوس بكل ما له علاقة بجسد الميت.
لعلَّ أول من تنبه إلى هذه الظاهرة ودرسها على المستوى الاجتماعي كارل ماركس، حين أشار إلى أن أحد وجوه العلاقة بين رأس المال المسيطر والعمل المأجور، بمعنى آخر هو سيطرة العمل الميت (رأس المال) على العمل الحي (العامل المأجور).
وفي التحليل النفسي الفرويدي هو مرض نفسي هستيري يصيب الأفراد. لكن لا تقتصر هذه الظاهرة على الفرد أو على المجتمع الرأسمالي، بل تمتد لتأخذ بعداً رمزياً وتأويلياً في الثقافة، إذ تتجلى في سيطرة الفكر الميت على الإنسان الحي، وهذا لا يعني أن الفكر التراثي فكرٌ ميت، بل هو فكر حي في نصوصه الإبداعية وفاعلٌ في الحاضر، إلا أن الحرفيين والذين يقدسون الماضي دون غيره يجعلون من التراث بنية ثابتة ومقدسة وذات معان وأسرار، تفرض نفسها علينا بوصفها قوةً خارج النقد، فهذه من مظاهر التفكير النيكروفيلي.
لمسة ميداس الحمقاء
في الأدبي المعاصر، يستخدم تعبير «لمسة ميداس»، إشارة إلى حماقة الملك ميداس، من الأساطير القديمة، وهو ملك فيجيا (بلاد الزهور) الذي ورث ثروات طائلة وبددها بحماقاته. كان يبدد كل ثروة تقع بين يديه، وحكاية هذه الأسطورة كما وردت في كتاب أوفيد «التحولات» أن حدائق عظيمة كانت حول قصر هذا الملك، ضاع فيها مرة السكير العجوز سيلينوس، وعثر خدم القصر عليه مخموراً نائماً في عريشة من الورود، شكوا في رأسه الزهور وحملوه إلى الملك لإضحاكه. إلا أن الملك رحب به بوصفه ضيفاً ملكيّاً واستضافه عشرة أيام، ثم أخذه الملك إلى «باخوس» إله الخمر الذي سرَّ بعودته، وقال لميداس إن أي رغبة يطلبها ستنفَّذ له، فما كان من هذا الطماع إلا أن يفكر بالذهب، وأن يطلب من باخوس أن يحوِّل له كل شيء إلى ذهب، وكان له ذلك، وحين عاد إلى قصره وشرع يتناول تفاحة لم يستطع قضمها، وكذلك الطعام والماء، فقد تحوَّل كل شيء إلى معدن أصفر، وكاد ميداس المسكين يموت جوعاً وعطشاً، فأسرع إلى باخوس، ورجاه أن يعيد كل شيء إلى ما كان عليه، فطلب منه باخوس أن يذهب إلى نبع «باكتولوس» ويغتسل ليتخلَّص من الهدية القاتلة.
وتوجد حكاية أخرى تؤكد حماقة ميداس، حين أقحم نفسه في تحكيم مباراة موسيقية بين «أبولو» كبير آلهة اليونان و»بان» الإله الريفي البسيط، وميداس لا يفقه بالموسيقا شيئاً! عزف «بان» على شبابته القصبية، وعزف «أبولو» على قيثارته الفضية، ومن شدة حماقة ميداس حكم لمصلحة «بان» وخالف أعضاء اللجنة دون أن يراعي قوة «أبولو» وخطورته، وقد عاقبه هذا بأن غير أذنيه إلى أذني حمار… إلى نهاية هذه الحكايات الأسطورية الشيقة عن ميداس.
هذه الأسطورة البسيطة تتداخل فيها عدة طبقات رمزية، منها: الحماقة وتبديد الثروة، والتطهر بماء النبع، وفي الحكاية الثانية جزاء من يحشر نفسه فيما لا شأن له به، وفي ذيول الحكاية عناصر أخرى توحي بها تفاصيل الأسطورة. هذه الأسطورة لها مكانة في النقد الأدبي، ويستحضرها نقاد الأدب، ولاسيّما تيار النقد الأسطوري الذي أسسه الناقد الكندي الكبير «نورثروب فراي» وأعلى من شأنه تلميذه النابغ «هارولد بلوم»، وقد استخدم الناقد الماركسي البريطاني «كريستوفر كودويل» هذا التعبير «لمسة ميداس» في كتابه الشهير «دراسات في ثقافة محتضرة» في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان يشير بهجائية إلى ثقافة الغرب الميدوسية التي تقود السفينة بقوة نحو الصخور! والتي تجلت فيما بعد بالحرب العالمية الثانية، و»أن كل اكتشاف على الصعيد العلمي يؤدي إلى خيبة أمل جديدة» مثل اكتشاف انشطار الذرة.
هذا من جانب الغرب. أما من جانبنا نحن العرب، فيبدو أننا لم نسلم من لمسة ميداس هذه في كثير من جوانب حياتنا، ولاسيّما الناحية الثقافية. فقد تخيل قسم كبير منا أن الماضي كله من ذهب، ورأى قسم آخر أن كل شيء قادم من وراء البحار هو المعدن الأصيل! وتبدد كل شيء بين يدي القسمين، ولم نقبض لا على أصالة ولا على معاصرة، ونحن اليوم في خضمّ الفوضى الثقافية التي أوشكت أن توصلنا إلى اليأس المطبق! أما عن واقعنا الاجتماعي والسياسي، فنحن أمام لعنة ميداس كاملة الأوصاف! فالحماقة عند ملوك وأمراء العرب بلغت حدودها القصوى، وعن تبديد الثروات، حدِّث ولا حرج، وبين أيديهم كل ذهب الأمة، يبددونه تحت أقدام أعدائهم! وادعاء الحكمة والمعرفة على الرغم من الجهل البين، لم يبلغه ميداس القديم، حتى عوقب بتحويل أذنيه إلى أذني حمار! فأي عقوبة يستحقها هؤلاء إذا ما قيست حماقاتهم بحماقة الملك ميداس، وفي نبع أي نهر علينا أن نتطهر من ثقل الآثام، لنخلص من ثقل هذه الهدية المغشوشة التي تلقيناها؟!
وهكذا نلاحظ كيف يحاكي الواقع الأسطورة.
أجنحة المهندس ديدالوس
كان أمهر المثالين وعبقري هندسة المباني في عالم اليونان، وكان يتجول بين المعاهد اليونانية المنتشرة في كريت وقبرص وأثينا لكثرة الدعوات التي تصله من ملوكها، وكان يكفي أن يقال: إن هذا من أعمال ديدالوس.
وهو الذي بنى «التيه» لمينوس ملك كريت. والتيه عمل هندسي من أعقد الأشكال الهندسية في العالم القديم، ضُرب حول «المنيتور» الوحش الخرافي الذي جعلته الأسطورة يلتهم كل من يقترب منه.
فاقت شهرة ديدالوس أي شهرة، وبقي كذلك حتى شبَّ «برودكس» ابن أخ ديدالوس، وفاق عمه بمزج الشعر والموسيقا مع النحت والهندسة، ولهج الأثينيون باسم هذا الشاب وتناسوا عمه. لَسَعَت ديدالوس عقارب الغيرة من ابن أخيه، فدفع به من علو في مياه البحر المتوسط، تلقت سيدة الأولمب وصاحبة أثينا، الآلهة «مينرفا» برودكس وأنقذته من موت محقق وحولته إلى طائر القطا، راح يرفُّ مدوماً فوق عمه. أحسّ ديدالوس أن الآلهة تعاقبه وتطارده، ولا بدَّ أن تأخذه بما اقترفت يداه. ثم ولد لديدالوس ابن سماه إيكاروس، وظلت القطاة تحوّم فوقه كلما انفرد مع نفسه أو حاول أن يُغمض عينيه، فآثر الهجرة عن أثينا إلى كريت ليحلَّ ضيفاً عند صديقه الملك مينوس. راود ديدالوس زوجة الملك وخانه، فأمر الملك بإلقاء القبض على ديدالوس وابنه، وأُلقِي بهما في حجرة منفردة على طرف القصر، مشرفة على البحر المتوسط.
اقترح الابن على أبيه صناعة أجنحة من ريش البط والإوز والديكة للطيران خارج هذا السجن، وثبَّتا الريش بالشمع الذي راح ديدالوس يدَّخره، صنعا زوجين من الأجنحة، وطارا فوق الماء، إلا أن إيكاروس الذي بهرته زرقة السماء ونسي وصية أبيه، راح يعلو ويعلو حتى اقترب من الشمس التي صهرت شمع الجناحين، وهوى إيكاروس في عمق المياه، ولما دنا من أبيه صرخ صرخة دوت مرعبة، أسرع ديدالوس لانتشال جثة ابنه الهامدة، ثم واراه التراب، بعد ذلك حلقت فوقه أسراب القطا، فنشج ديدالوس نشيجاً مؤلماً، وهو يقول: «برودكس، أتيت تبكي إيكاروس… سامحني يابرودكس».
فتزقو القطاة، كأنها تنتحب، ثم تدنو من القبر حتى تصير فوقه، فتذرف عبرتين غاليتين، وترفُّ في الهواء، حتى تغيب عن عيني ديدالوس.
ونُذكّر قرَّاء الروايات أن بطل رواية «يولسيس» للكاتب الإيرلندي الشهير جيمس جويس، اسمه «ستيفن ديدالوس».
الراعي الموسيقي أورفيوس
من أكثر الشخصيات الأسطورية تأثيراً بالشعراء، كان ملهماً للموسيقيين والفنانين وللعقائد الصوفية. أطلقوا عليه ألقاباً، منها: لسان الطبيعة، والموسيقي الإلهي. كان الإله الإغريقي «أبولو» يوقف عربته الذهبية المنطلقة نحو السماء ليسمع موسيقا أورفيوس، وكذلك الآلهة ديانا، تنزل من مركبتها الفضية لتستمع، وكان الوحش والطير تجتمع حوله وهو يعزف، لتنصت وتنام في نعيم الموسيقا.
لم يكن أورفيوس إلهاً، بل كان راعياً يرعى الغنم، متزوجاً من يوريديس الجميلة، وكان حبه لزوجته مصدر عبقريته، ويقول: «إنه لا يملك من الدنيا سوى قيثارته وحبيبته يوريديس». كانت هذه الجميلة تجمع السوسن والأزهار البرية لتقدّمها لحبيبها وربما لتبيعها إلى الأثرياء، وهي تقوم بذلك لدغتها أفعى وماتت. من هنا تبدأ مأساة أورفيوس، في محاولة استعادتها، يعبر نهر الموت «سينكس» أو عالم الجحيم ليلاقي الإله بلوتو وزوجته برسيفون وبجانبهما كلب الجحيم الشهير بـ «هادس»، لكن أورفيوس يخفق في استعادة حبيبته، لأنه أخل بشرط بلوتو، ونظر إلى الخلف، في طريق عودته معها. وهنا تتقاطع هذه الأسطورة مع الملحمة البابلية الشهيرة بــ»ملحمة جلجامش».

التاريخ: الثلاثاء 31-12-2019

رقم العدد: 980

آخر الأخبار
40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان الدفاع المدني السوري.. استجابة شاملة لسلامة الأهالي خلال العيد دمشق منفتحة على التعاون مع "الطاقة الذرية" والوكالة مستعدة لتعاون نووي سلمي حركة تسوق نشطة في أسواق السويداء وانخفاض بأسعار السلع معوقات تواجه الواقع التربوي والتعليمي في السلمية وريفها افتتاح مخبز الكرامة 2 باللاذقية بطاقة إنتاجية تصل لعشرة أطنان يومياً قوانين التغيير.. هل تعزز جودة الحياة بالرضا والاستقرار..؟ المنتجات منتهية الصلاحية تحت المجهر... والمطالبة برقابة صارمة على الواردات الصين تدخل الاستثمار الصناعي في سوريا عبر عدرا وحسياء منغصات تعكر فرحة الأطفال والأهل بالعيد تسويق 564 طن قمح في درعا أردوغان: ستنعم سوريا بالسلام الدائم بدعم من الدول الشقيقة تعزيز معرفة ومهارات ٤٠٠ جامعي بالأمن السيبراني ضيافة العيد خجولة.. تجاوزات تشهدها الأسواق.. وحلويات البسطات أكثر رأفة عيد الأضحى في فرنسا.. عيد النصر السوري قراءة حقوقية في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية "الثورة" تشارك "حماية المستهلك" في جولة على أسواق دمشق مخالفات سعرية وحركة بيع خفيفة  تسوق محدود عشية العيد بحلب.. إقبال على الضيافة وتراجع في الألبسة منع الدراجات النارية بحلب.. يثير جدلاً بين مؤيد ومعارض!