تعاني المجتمعات العربية مما يمكن تسميته عقدة الغرب الحضارية أي إنه المصدر الأساسي للإنتاج المعرفي والعلمي والتقني، وهذه عقدة تاريخية لازمتنا منذ عدة قرون، وكأنها قدر تاريخي يعكس فارقاً حضارياً توجبه فروقات جوهرية في بنية وتكوين العقل الغربي مقارنة بعقلية الشرق، وقد عزز من هذه الأزعومة العديد من الفلاسفة وخاصة الألمانيين هيغل ونيتشه اللذين تحدثا بشكل واضح عن أن الفكر الغربي ولا سيما الجرماني سيشكل نهاية التاريخ بوصفه يكرس سيادة العقل كمصدر أساسي ووحيد للمعرفة، وهذا باعتقادنا يتناقض تماماً مع واقع الحال بل مع أفكار مطلقيه ولا سيما هيغل صاحب نظرية الجدل والتناقض الذي يرى فيها الأساس والجوهر لتطور البشرية وصولاً لأعلى درجات الحرية من خلال الفكرة ونقيضها على قاعدة الديالكتيك الهيكلي المناقض للديالكتيك الماركسي القائم على صراع الطبقات وفائض القيمة.
إن محاولات ربط التطور الحضاري بالفلسفة والفكر الغربي مسألة تتعارض مع حقائق التاريخ وشواهده لجهة ربط ذلك بتحرير العقول ومبدأ الشك في مواجهة الفكر الديني وسلطة الكنيسة، حيث يؤرخ لذلك وفق القراءات الغربية والمعاصرة بالقرنين الخامس عشر والسادس عشر بالإحالة إلى مارتن لوثر بالفصل بين السلطة الكنسية والسلطة الشعبية كمصدر للشرعية أو من خلال فلسفتي كانط (سلطة العقل) أو ديكارت (فلسفة الشك) ولا شك أن لكلا الفيلسوفين دوراً كبيراً في النهضة الفكرية والعلمية والفلسفية في الغرب ولكن -وهذه حقيقة تاريخية – كان قد سبقهما إلى ذلك كل من المعتزلة في القرن الثاني الهجري من خلال كتابات واصل بن عطاء وتياره الفكري وبعد ذلك إخوان الصفا وصولاً إلى فلسفة ابن رشد في مطلع القرن العاشر والحادي عشر الميلادي وشروحاته وإضافاته على ما أطلق عليه الأفلاطونية المحدثة والتأثير المهم الذي تركته كتابات ابن رشد على الفكر الغربي الذي كان يعاني من سطوة التفكير الكنسي اللاهوتي.
لقد شكل المعتزلة تياراً فكرياً وازناً وجد مناخاً حاضناً في عصر الخليفة العباسي المأمون استطاع تشكيل قاعدة وعي وازنة استفادت من الفلسفة اليونانية، وأعلت من شأن العقل في مواجهة النقل، وكادت أن تنقل شعوب المنطقة إلى عصر تنوير حقيقي سبق عصر التنوير الأوروبي بعدة قرون ولكن الصراعات الدينية والمذهبية واستطالاتها السياسية حالت دون ذلك ولا سيما في القرنين الحادي عشر والثاني عشر في الأندلس، حيث محنة ابن رشد الذي وقع في مواجهة مع التيارات الدينية وقاعدتها الواسعة آنداك التي استغلت ظروف الصراع بين العرب والإسبان في الأندلس فيما سمي حروب الاسترداد لتستميل الخليفة المنصور بن يعقوب بن يوسف باشتراط استبعاد الفيلسوف ابن رشد وأتباعه ومدرسته لتقف إلى جانبه في مواجهته مع الفونسو وجيوشه الجرارة، وهو ما حصل ليستتبع ذلك ردة فكرية كانت أحد أسباب سقوط الأندلس وخروج العرب منها بشكل كامل نهاية القرن الرابع عشر للميلاد.
لقد حملت الثقافة العربية الإسلامية إرهاصات حقيقية لنهضة حضارية عقلانية تعلي من شأن العلم والمعرفة وتنبذ الجهل والتخلف واستطاعت أن تجد متنفساً لها في فواصل تاريخية مهمة ولا سيما في صدر العصر الأموي ومطلع العصر العباسي وكذلك في الأندلس التي كانت قبلة العلم والعلماء لقرنين من الزمن، وكان يمكن لها أن تشكل نواة لحضارة عربية وإنسانية تنقل العالم إلى مستوى متقدم في ركب الحضارة العالمية، ولكن حالة النكوص التي أصابت الأمة في العصر المملوكي وما استتبعه من أربعة قرون من السيطرة العثمانية التي أدخلت المجتمعات العربية والإسلامية في أتون صراعات وحروب رافقتها حالة تخلف وجهل واستبداد انتهت بتقاسم الغرب للتركة العثمانية جعلتنا جميعاً نعيش حالة استتباع حضاري للغرب الذي عمل ويعمل على أن يبقي تلك الفجوة الحضارية ويدخلنا في مربع اليأس مستهلكين لا منتجين ساعياً على خلافاته وتناقضاته مسرحاً لنفوذه وأطماعه التاريخية بحيث لا تقوم لنا قائمة ونحن الذين قرع فرساننا في يوم من الأيام أبواب فيينا وباريس.
د. خلف المفتاح
التاريخ: الاثنين 13-1-2020
الرقم: 17167