الملحق الثقافي:نبوغ محمد أسعد:
يقدم الدكتور نزار بريك هنيدي حالات جديدة متنوعة تعتمد على تحليل دقيق في تطبيق ماهية النقد، على البنى المكونة للشعر في أكثر من مجالات واتجاه. ولا يعتمد الناقد هنيدي في كتابه على تقليد أو نسخ او مجاملة، بل يقدم نظريات معتمدة على معرفة حقيقية للنقد ليشتغل على تجاوزها. فإذا ذهبنا لما كتبه تحت عنوان عمود الشعر، فهو لا ينكر محبته للشاعر، ولكن في واقع الأمر نجد أن ما دفعه للكتابة هو الاحتفاظ بنقاء الجوهر الإنساني الذي يمتلكه صالح الأصيل والذي يعتمد على مقومات السلوك والفكر المبنية على ما يقنع الناقد نزار بريك هنيدي، فهو يتكلم عن قدرته على الاقتراب من هذا الجوهر الذي يتميز به الشاعر الأصيل بصفته شاعراً كما رأى هنيدي، وهو الذي يفتدي جميع أبناء جنسه البشري بما يقدمه الأكثر اقتراباً من نار الجوهر الإنساني.
الناقد هنيدي أيضاً يذهب إلى أمر جد مهم، فيسلط الضوء على هذا الأمر الذي فحواه ان هناك كثير من الشعراء والنقاد والصحافيين لا يرون فارقاً بين القصيدة التقليدية وقصيدة الحداثة. فبينما هناك قصائد تفعيلة ونثر مغرقة في التقليدية على صعيد رؤاها أو بنائها الفني أو طريقة استخدامها للغة أو توجهها إلى الجمهور، إضافة إلى أن الشاعر لا ينتبه إلى ضرورة وجود الدهشة المبتكرة التي تحمل في مضامينها مقومات الحداثة، وهذا ينطبق على أصحاب الأيديولوجيات المتمسكين بعقائد وتقاليد وعادات وإيديولوجيات مختلفة، لأن كل هؤلاء يمكن أن يكونوا قد وقعوا في مطب التقليد والعجز عن الابتكار.
وعندما بين الشاعر الناقد هنيدي كيفية التعامل مع الأصالة والتجديد، استشهد بالشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد الذي اعتبره من الذين قدموا جمالاً حقيقياً في هذا المجال واختزل مسيرة الشعر العربي المعاصر بكل ما اعترضتها من نزاعات وتجاذبات وما اعتمل فيها من تجارب، لأن هذا الشاعر نذر حياته للشعر وهو مستند إلى موهبة فطرية أصيلة لا يمتلكها إلا قليلون في كل زمن وكل عصر وإلى معرفة عميقة بالشعر العربي إضافة إلى معاصراته لأمراء المدرسة الكلاسيكية الجديدة كـ (الجواهري)، وكذلك معايشته لعدد من رواد حركة الحداثة الشعرية التي حمل لواءها عدد من شعراء الجيل الذي سبقه وربطته ببعضهم صداقات وببعضهم الآخر خصومات، وهذا أثر فيما أبدعه من شعر ذي الشطرين أو شعر التفعيلة.
كما أشار هنيدي إلى أن الشعر ليس مجرد تعبير مباشر عن الانفعالات الآنية أو العواطف البسيطة التي تعتري الشاعر في مواجهته لما يصدر عن العالم المحيط به، فالنموذج الأسمى في العصر الحديث هو الشاعر المفكر، مستشهدا بأدباء وكتاب على ما ذهب إليه، ليقدم الشاعر كما يرى تجاوزات الواقع وتخطي الانفعالات المباشرة لأي أمر وتقديم الدلالات واستنباط المعاني وسبر أغوار الحقيقة، فقدم أمثلة كثيرة على هذا وذاك، الذي بث فيه كثيراً من النوازع الشخصية وغير الشخصية التي جاءت في سياق شاعرية كثير من الشعراء كنازك الملائكة ويوسف الصائغ وغيرهما وصولا إلى المسرح الشعري ونذير العظمة، وإلى شعراء قدموا إبداعاتهم بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.
الناقد لم يقتصر على اتجاه نقدي، بل أثبت أن النقد أيضاً إبداع، ولا يمكن لناقد أن يكون على ذلك إلا إذا كان في أصل بنائه الشخصي شاعراً. وهذا يتحقق تماماً عند الناقد هنيدي، كما نجد أن في كل ما أتى إليه أمرين مهمين، أنه مطلع جداً على النقد العربي والنقد الأجنبي، ويخلص في النتيجة إلى واقع نقدي متوازن لا يشعر القارئ أمامه إلا بالقناعة، وهذه القناعة جاءت عبر وسائل قدمها هنيدي وهي ضليعة في الإقناع والإمتاع.
ولا يخفى على القارئ الذي يمتلك الحس والروح الإنسانية أن يتلمس هذه العواطف الوجدانية التي خطها الشاعر خلال سياقه النقدي في الكتاب وعن المواقف المؤثرة التي تعرض لها كل هؤلاء الذين مر على ذكرهم وما تعرضوا له من ظلم وقهر في نهاية مسيرتهم الحياتية والأدبية، ورحلوا صامتين تبكي قلوبهم ناراً وألماً لما آلت إليه أحوالهم، وقد همشهم المجتمع والتاريخ.
التاريخ: الثلاثاء21-1-2020
رقم العدد : 983