في الندوة الثالثة التي تضمنتها أيام الفن التشكيلي السوري الثانية خلال شهر كانون الأول الماضي، استضيف في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق الفنان المعلم الياس زيات في حديث توقف فيه عند تجربة مرسم فيرونيز، التي قد تكون المحاولة الأولى لإقامة تجمعات للفنانين التشكيليين بهدف العمل المشترك، وفتح الحوار بين الآراء المتباينة حول الفن التشكيلي، والاتجاهات المختلفة فيه.
في وقت سابق تحدثنا هنا عن هذا التجمع الذي أسسه في دمشق عام 1941 عدد من الفنانين التشكيليين كان من بينهم صلاح الناشف ومحمود جلال وعدنان جباصيني ومحمود حماد ورشاد قصيباتي ومحمود حماد ونصير شورى وعبد العزيز نشواتي.. وقد أخذ المرسم اسمه من الاسم الذي عرف به فنان عصر النهضة الإيطالي باولو كالياري (1528 – 1588) الذي اعتبرت لوحاته المعتمدة على التأثير الشعري للألوان نموذجاً لفن نُسب إليه (الفن الفيروني)، وهو أيضاً مكتشف اللون الأخضر الذي يحمل اسمه (فيرونيز)، وقد استخرجه من هرس أحد الأحجار الكريمة، واستخدمه بطريقة تشبه الأسلوب الانطباعي قبل ظهور (الانطباعية) بأكثر من ثلاثمئة سنة.
يعود الفضل الأساسي في تأسيس المرسم لعدنان جباصيني فقد قدم المقر للتجمع حيث كانوا يلتقون فيه بفنانين معروفين مثل: ميشيل كرشة وعبد الوهاب أبو السعود وسعيد تحسين. وفنانين من حلب: فاتح المدرس وغالب سالم والفرد بخاش، وسهيل أحدب من حماة، ومصطفى فروخ من بيروت، وخالد الجادر من بغداد، وعبد العزيز درويش من القاهرة، وبفنانين أجانب لدى مرورهم بدمشق. كان المقر منزلاً يقع في الطابق الأرضي لبناء ذي فسحة سماوية خلفية في جادة (رامي) المتفرعة عن شارع العابد في دمشق (مواجه المؤسسة الاجتماعية العسكرية)، هو في الأصل ورشة دهان للمفروشات وألعاب الأطفال يملكها عدنان جباصيني. في حين ذكر لي ابنه عامر أن الورشة كانت لدهان السيارات، وهي إحدى الأشياء التي اهتم بها والده، ومنها جلب النباتات من دول العام، وآخرها صالة مفروشات تقوم اليوم في الجادة المقابلة من شارع العابد، وتحمل اسم عدنان جباصيني.
كان عدنان جباصيني مليئاً بالحيوية شغوفاً بالسفر، رغم أنه فقد إحدى ساقيه منذ الطفولة إثر انفجار قنبلة قديمة، وقد زاول التصوير الزيتي فترة من حياته وكان من رافضي الاتجاهات الفنية الحديثة، ويذكر غازي الخالدي في مقالة نشرها في العدد 49-50 من مجلة (الحياة التشكيلية) أن عدنان جباصيني اتفق مرة مع الفتى الذي يخدم وينظف المرسم على أن يضع مجموعة ألوان زيتية متبقية من الألوان المتروكة على (الباليتات)، بشكل عشوائي، على لوحة وبدون أي تصميم أو فكرة مسبقة، وأن (يلخبط) الألوان ويمزجها كيفما اتفق على سطح اللوحة، ثم يمضي فيقلب اللوحة رأساً على عقب، ويضعها في مكان عالٍ، لا تصله الأيدي. وعندما اجتمع الشباب رواد المرسم قال لهم عدنان: (ما رأيكم بهذه اللوحة إنها من رسم الفنان اليوغسلافي بوتشوشا؟) فسكت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، ولم يتجرأ أحد أن يقول رأيه، وبعد لحظات بدأت تعليقاتهم وكل واحد بدأ يتحدث عن ميزاتها الفنية، من لون، وتكوين، وإحساس، وجرأة، وتميز بالشخصية، وتفرد بالأسلوب، إلى أن أشبعوها تحليلاً وتقويماً، وأخيراً نادى للفتى الذي يقدم لهم الشاي والقهوة وسأله أمامهم: (لمن هذه اللوحة.. من رسمها؟) فقال الصبي خائفاً: (أنا يا معلمي.. جمعت ما بقي من الألوان ودهنت هذه اللوحة)..
وقد قدم محمود حماد رواية أخرى للحادثة، نقلها عنه ممدوح قشلان في كتابه (نصف قرن من الإبداع التشكيلي في سورية) الصادر في دمشق عام 2006 تختلف في التفاصيل، وتتفق عند الجدال الحاد الذي قام بين مناصري الاتجاهات الواقعية ومناصري الاتجاهات الحديثة والذي يمتد وفق تعبير حماد: (حتى يمسي صراخاً وخلافاً شخصياً ما يلبث أن يتلاشى حول عشاء مرتجل)!!
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 4-2-2020
الرقم: 17184