الخلاصة النهائية لأي عملية تستهدف تشخيص الواقع الدولي، وتتجه لتوصّف التهديدات التي تُواجه النظام العالمي، لا بد أن تجد بأميركا كقوة رأسمالية مُتوحشة التهديد المركزي للعالم، انطلاقاً من كونها النظام الإمبريالي المُتغطرس، والقطب الذي يدوس القوانين، ولا يكتفي بازدراء المبادئ والمواثيق لفرض هيمنته المطلقة على الجميع.
التهديد المركزي للعالم، أميركا، فهي من يُفجر النزاعات والحروب، وهي من تُختَزَلُ فيها كل أسباب التوتر على امتداد الجغرافيا، وهي من تُسجَّل بيدها الآثمة التجاوزات على الشرعية والانتهاكات للقوانين، تَعتدي، تَخرق، تُصادر، تَنهب، تَشطب .. واستخفافاً بالعالم تُشرعن خطواتها بهذه الاتجاهات، مرّة بسن قوانين داخل الكونغرس لا مَشروعية لها، وأُخرى باتخاذ إجراءات أحادية الجانب، تفرضها على الأطراف الأخرى التي تَمتثل وتَخضع ليس إيماناً، بل خَشية نهج البلطجة.. عقوبات وحصار ومُشتقاتهما.
الفوضى التي بلغت مُستويات غير مَسبوقة، الحروب والنزاعات القائمة وقابليتها للتمدد، ولاتساع دوائر الخطر الذي تُمثله، هي نتاجٌ حَصري مباشر للسياسات الإمبريالية الأميركية، ذلك أنه من السهولة اكتشاف الذراع الأميركية هنا وهناك، وقد باتت واشنطن مِحراك الشر في العالم وصانع الشرور في أربع جهاته.
الإدارة الأميركية الحالية قد تُمثل الحالة التي معها تمّ تَظهير أميركا على حقيقتها، غير أن دونالد ترامب لا يَختلف عن أسلافه إلا في جُزئية واحدة؛ المُباشرة غير المألوفة واللانمطية، سواء لجهة التعبير بوقاحة عن العنجهية والنهب والصلف، أم لجهة الذهاب لتحقيق الأهداف القذرة بأقل استخدام لمَساحيق التجميل، بل من دونها، خلافاً لإدارات سابقة كانت تَرصد ميزانيات للتلميع، وتُخصص أُخرى لإزالة التشوهات التي تتسبب بها سياساتها العبثية المُتعجرفة.
بمُقابل التهديد المركزي للعالم الذي تُمثله أميركا، هناك جملة من التحديات التي تترتب على العالم لمُواجهة واشنطن كتهديد، اثنان بهذا العالم قد تختلف تقديراتهما لناحية حجمه، غير أنهما لا يَختلفان على وجوده الكارثي كتهديد للسلام، للأمن، وللاستقرار، فضلاً عن تهديد كل ما يتصل بالتنمية ومساراتها الاقتصادية، الصحية، الاجتماعية، والبيئية.
التحدي العالمي المركزي بمُقابل التهديد المركزي الأميركي، أو بمُواجهته، ينبغي أن يُركز أولاً على وجوب إصلاح النظام الدولي وتحرير المنظمة الأممية من الهيمنة، وهو ما من شأنه أن يُعيد لها شيئاً من المصداقية التي تَبخرت، وجزءاً من المَوثوقية التي فُقدت، وقليلاً من الهيبة للمؤسسات المُنبثقة، وقد لامست العدم من بعد قَبولها أن تكون دائرة من دوائر الخارجية الأميركية.
المحكمة الجنائية الدولية، منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، والعديد من العناوين التي نشأت تحتها هيئاتٌ ومنظمات دولية استغلتها أميركا، واستخدمتها كأداة بازدواجية مَقيتة، امتطتها لاحقاً على نحو مُذلٍّ لتحقيق غاياتها القذرة، فجَعلتها تفقد المصداقية قبل الثقة.
ولأن الكثير من المؤسسات الدولية صارت بلا مصداقية، فقد يأتي في مُقدمة التحديات العالمية تحدي تحريرها، واستعادتها استعادة كاملة إنقاذاً للنظام العالمي من الانهيار، وإحقاقاً للقانون الذي لا يَستثني أحداً.. لا يجوز لأميركا أن تَفلت من العقاب على ما ارتكبته بحق العالم وشعوبه، قوانينه وشُرعته ومُنظماته التي شوهتها، ناهيك عن الحروب والنزاعات التي أشعلتها، فضلاً عن الإرهاب المُنظم الذي أنشأته ورعته، وما زالت تستثمر فيه.
الافتتاحية بقلم رئيس التحرير: علي نصر الله