الوفرة المُهْلِكة

 

 

 

يروي سومرست موم، الأديب الإنكليزي المعروف أنّه عندما كان مُقيماً في الولايات المتحدة، طلبَ إليه مُحرّر»رد بوك» قائمة بما يراه أحسن عشر روايات في العالم، فكتبَ القائمة وتضّمنت: «توم جونز- الكبرياء والهوى- الأحمر والأسود- الأب جورجيو- ديفيد كوبرفيلد- مرتفعات ويذرينج- مدام بوفاري- موبي ديك- الحربُ والسلام- الإخوة كرامازوف»، وذكَرَ في تعليق موجَز أرفقَهُ بهذهِ القائمة: «سيجدُ القارىء العاقل أكبَرَ قسطٍ من المُتْعة في قراءة هذهِ الروايات لو تعلَّم قفزَ الصفحات»، وكان من نتائجِ هذهِ الملاحظة أن اقترحَ أحد الناشرين الأميركيين على سومرست موم نشر هذهِ الروايات العشر بعد حذف الأجزاء التي يَحْسُنُ تركُها دونَ قراءة من النص الأصلي لكل رواية، وفَعَلَ موم ذلك ونُشَرَتْ تلك الروايات بعد أن اختصرها بنفسه، ولاقت رواجاً، وقد سَوّغ موم فعله هذا بتأكيدهِ أن معظم الناشرين لديهم محررون متخصصّون يتلخّص عملهم بهذهِ العمليّةِ بالذات؛ وبحثَ في الأسباب التي دفعت أولئك الروائيين للإطالةِ والإسهابَ!
لم أذكر الحادثة السابقة لأقول إنني مع ما فعله سومرست موم أو ضِدّه، لكن ما دفعني إلى ذلك هو أن عدداً غير قليلٍ من الروائيين العرب، وبينهم سوريّون يطرحونَ بين أيادينا هذهِ الأيام أعمالاً روائيّةً ضخمة؟ ليس لضخامتها ولكثرةِ صفحاتها من مسوّغٍ فنيٍّ جماليٍ أومعنوي، بقدرِ ما يَعْكِسُ كثيرٌ منها شهوةَ كلامٍ طاغية سيطرت على الروائي، ووفرةً مُهلكةً من الوصفِ تذُكّرُ بتلكَ التي سادت في الرواية تحت تأثير الرومانسيّة حين كان يلذُ للروائي أن يُسهبَ في وصف ما يحيطُ ببطلِهِ إذا ما تحرّك من مكانٍ إلى مكان لغايةِ الوصف ذاتِهِ، أو أن يسُهبَ في حواراتٍ ممجوجةٍ تُسطّحُ شخصياتِهِ عوضاً عن أن تغنيها… ويقعُ في عثراتٍ لا نستطيعُ أن نوجِزها في هذهِ الزواية الصغيرة. إن كانَ ثَمّةَ ما سوِّغَ للروائيين القدامى أن يكتبوا رواياتٍ طويلةٍ جداً في الماضي سواء فيما يتعلّق بذائقةِ القراء ووقتهم الحر، أم طلب المطابع تقديمَ عددٍ كبيرٍ من الملازم، أو الصفحات للمجلّات الشهرية التي تنشر الرواية على حلقاتٍ؛ فإن الأمر اليوم يختلفُ تماماً وقد زالت تلكَ «الموضة» الروائية منذ أمدٍ بعيد؛ بعد أن أوقعت حتى كبار الروائيين في أخطاء فنيّة ليست قليلة، ويكفي أن نضربَ مثالاً على ذلك رواية سيرفانتس الخالدة «دون كيشوت»، التي قال عنها كوليردج ذات يوم «إنها كتاب يُقرأ قراءةً كاملة مَرّة واحدة، أما في المرّة الثانية فيمرُّ القارىء على بعض صفحاتِهِ فحسب» وهو يعني بذلك أن كثيراً من صفحاتِهِ مُملٌّ، وغير موفّقٍ، ويؤكد سومرست موم هذا الكلام حين يقول عن الكتاب نفسه: «إنّهُ كتاب عظيم ومهم ويجب على طالب الأدب المتخصّص دون شك قراءَته قراءةً كاملة، لكني لا أظن أن القارىء العادي، الذي يقرأ للمتعة، يفقدُ شيئاً إذا هو لم يقرأ الأجزاء الهزيلة من هذا الكتاب، ومن المؤكد أنه سيستمتع أكثر بأجزاء الرواية التي يدور السردُ فيها مباشرةً حولَ المغامرات والحوار بما فيها من متعة وقوّة تأثير والتي تدورُ حولَ الفارس الرقيق وتابعه الواقعي».
وقد عُدّ الحشو في هذه الرواية المهمّة نقطةً سوداءَ، ومن أجل هذا هاجَمَ النقد المعاصر سيرفافتس! وقد لا تَنجو أعمال رائعة أخرى من مثل هذا العيب.
لقد تَسنى لي – رُبمّا بسبب طبيعة عملي- أن أقرأ عدداً غير قليل من الأعمال الروائية السوريّة بعضها مخطوطات، وبعضها لأصدقاء أحبهم وكانت آفةُ كثيرٍ من تلكَ الأعمال هي ما سميتُهُ «الوفرَة المُهلكة»!
إنّه الإطناب والاسترسالِ والاستطراد، في شأنٍ أو موضوعٍ أحبَّهُ هذا الروائي أو ذاك لكنّه مهما كان ممتعاً له نفسه، فهو ليس بالضرورة قادراً على خدمةِ موضوع الرواية، بل على العكس إنّه مَقْتَلُها!!.
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 23 – 2 – 2020
رقم العدد : 17200

 

آخر الأخبار
الرئيس الشرع والبطريرك يازجي ..وحدة السوريين صمام الأمان أمام محاولات التقسيم والتفكيك  "العدل" : عدم فك احتباس الحفارات التي تقوم بحفر آبار  بدون ترخيص   الشيباني مع المحافظين : الاستفادة من الدعم الدولي بما يخدم الأولويات المحلية   الرئيس الشرع يستقبل البطريرك يوحنا العاشر يازجي وتأكيد على الدور الوطني        انفجار المزة ناجم عن عبوة ناسفة مزروعة بداخل سيارة مركونة  المجتمع الأهلي يجهز بئر مياه كويا بدرعا  تحديات بالجملة أمام عودة أكثر من 2,3 مليون سوري عادوا لديارهم  ارتفاع الدولار وحرائق الساحل تنعكس على الأسعار في الأسواق  ريادة الأعمال في قلب التغيير.. النساء دعامة المجتمع خفايا  ثوب الانفصال!   حملة تنظيف لشوارع الصنمين بعد 15 يوماً على تخصيص رقم خاص للشكاوى.. مواطنون لـ"الثورة": عزز الثقة بعمل مديريات محافظة دمشق بسبب الضياع المائي .. شح في مياه الشرب بدرعا معرض دمشق الدولي .. منصة شاملة تجمع التجارة بالصناعة والثقافة عودة بئر "دير بعلبة" للعمل شهر على اختطاف حمزة العمارين.. قلق متصاعد ومطالبات بالكشف عن مصيره الفرق تواصل السيطرة على آخر بؤر حرائق كسب بريف اللاذقية دراسة إعفاء الشاحنات ومركبات النقل من الرسوم  وتفعيل مركز انطلاق السيارات السورية مع لبنان السويداء بين شعارات "حق تقرير المصير" وخطر الارتماء في الحضن الإسرائيلي "معاً نبني سوريتنا" .. لقاء حواري يعيد رسم ملامح التكاتف المجتمعي في سوريا