ثمة معلومات تؤكد مصرع ما يناهز خمسين جندياً تركياً نتيجة للاشتباكات التي جرت في شهر شباط المنصرم، منهم 36 قتلوا يوم الخميس الفائت، جراء القذائف التي أطلقتها القوات السورية الأمر الذي يعطي مؤشراً على أن التعاون التركي-الروسي الذي تم الاتفاق عليه بشأن شمال سورية قد بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.
ومما يؤكد ذلك قيام تركيا بتوجيه اتهام مباشر لروسيا بمسؤوليتها عن مصرع جنودها،في الوقت الذي بينت فيه الأخيرة أنه ليس ثمة من مبرر لوجود القوات التركية في المنطقة، كما أنها (تركيا) لم تعمل على تنسيق وجودها مع الروس بهذا الشأن، إلا أن الأتراك نفوا تلك الأقوال مدعين أن موسكو كانت على علم بوجودهم في تلك المواقع.
وفي وقت سابق هدد الرئيس رجب أردوغان بأن أنقرة «ستستهدف مواقع القوات السورية، دونما اقتصار ذلك على حدود محافظة إدلب»، وفي يوم الخميس الماضي وجد الرئيس التركي أن الظروف تلزمه إعادة النظر في سياسته حيال روسيا، لأنه على علم تام بأن الاشتباك المباشر مع القوات الروسية يحمل في طياته مخاطر جسيمة، الأمر الذي دعا لإجراء اتصالات هاتفية بين الجانبين التركي والروسي أفضت إلى صدور بيان مشترك ينص على تهدئة الطرفين للتوترات والحد من العمليات العسكرية، لكنه حتى الآن لم يعقد اجتماع بين رئيسي البلدين رغم مساعي أردوغان لعقده منذ مطلع المعارك في إدلب.
في يوم الأحد الفائت، طلب أردوغان من الرئيس الروسي إبعاد قواته، كي تهاجم القوات التركية بشكل مباشر القوات السورية، إلا أنه بذات اليوم تمكنت القوات السورية من إسقاط ثلاث طائرات تركية مسيرة، الأمر الذي قاد إلى تصاعد في التوترات على نحو سريع.
الجدير بالذكر أن ما يتلقاه أردوغان من دعم دبلوماسي أميركي لم يشف غليله، ونظراً لكون تركيا عضواً في حلف الناتو، فقد طلبت من الولايات المتحدة تزويدها بصواريخ باتريوت، في الحين الذي طلبت فيه من بوتين عدم تدخل القوات الروسية عند شنها «هجوما» على القوات السورية.
وكما دأب عليه، فقد عاد أردوغان ليهدد أوروبا بفتح الأبواب التركية أمام ملايين اللاجئين في بلاده والراغبين بالتوجه غربا نحو أوروبا، ووفقا لتقارير صدرت في تركيا، فإن عشرات الألاف من المهجرين تجمعوا على مقربة من الحدود والموانئ البحرية بانتظار العبور إلى اليونان، وقال المتحدث الرسمي التركي إن تركيا ستلتزم بشروط الاتفاقيات المبرمة مع الاتحاد الأوروبي عام 2016، ولن تفسح المجال للاجئين بالعبور، ومع ذلك نجد أردوغان قد أكد سابقا أنه سيوجه بفتح أبواب بلاده إلى حين تلبية الأوروبيين لمطلبه بشأن تقديم 3.5 بليون دولار لتمويل إقامة المهجرين في تركيا، إضافة إلى ما يقارب الـ 6 بلايين دولار التي سبق لتركيا أن تلقتها.
وفي خضم هذا الواقع أخذت الضغوط تتصاعد في تركيا بهدف إعادة قواتها إلى البلاد، ووقف «تدخلها العسكري» في سورية، وفي الأسبوع الماضي وقع 140 مثقفاً وفناناً على بيان يقول: «نحن الموقعين أدناه نرى أن بلادنا تسير نحو طريق مسدود، إذ يقتل أبناؤنا في حروب تجري بدولة أخرى الأمر الذي ألحق الضرر بسمعتنا أمام المجتمع الدولي وجعل من دولتنا رهناَ للإمبريالية وراعية للإرهاب».
ما زالت المعارضة تنشر مقالات نقدية على صفحات الانترنت تتعلق بتحول الأنظار عن الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تواجهها تركيا إلى الحرب على سورية، ومع ذلك فإنه من غير المحتمل قيام أردوغان بتغيير سياسته، ويضاف إلى ذلك أن تركيا قد عمدت إلى فرض قيود على الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي في يوم الخميس الفائت بهدف إسكات أي احتجاج محتمل.
ووفقا لما ذكرته تقارير أصدرتها المعارضة التركية فإن أكثر ما يثير قلق أردوغان داخليا يتمثل بالخلافات السياسية الداخلية ضمن حزب العدالة والتنمية، الذي فقد في الآونة الأخيرة عشرات الألاف من الأعضاء إلى صالح أحزاب منافسة، يضاف إلى ذلك تأسيس حزبين جديدين يقوم على رأس كل منهما مسؤول رفيع المستوى ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية.
تتهم الأحزاب المعارضة أردوغان بتجاوز البرلمان وشن الحرب على سورية تحقيقا لمصالح حزبه, وإزاء ذلك يطالب بعض قادة المعارضة بوقف أردوغان « عمليته» العسكرية وإجراء المفاوضات مع سورية للتوصل إلى اتفاق من شأنه أن يفضي إلى انسحاب القوات التركية.
إن أكثر ما أثار حنق المواطنين والمشرعين الأتراك تعذر نقل الجرحى من سورية جوا نظرا لإعلان سورية منطقة حظر طيران بالنسبة للطائرات التركية، ولذلك، فإنه لزام على أنقرة إجلاء قتلاها بالمركبات التي ستسير على طرق وعرة وصولاً إلى تركيا.
وفي الحين الذي أعربت فيه أحزاب المعارضة ونشطائها عن تضامنها «الوطني» وتعبيرها عن مواساتها لأسر الجنود القتلى، يبدو أن الأمر سيكون أكثر خطورة إن أقدمت القوات التركية على التوغل في أراض سورية مما يفضي إلى إشعال عاصفة سياسية نارية ضد أردوغان في الأسبوع المقبل.
ونافلة القول فإنه حتى لو تمكن أردوغان من التغلب على الألغام السياسية الداخلية، فإن روسيا لن تغير موقفها ولن ينزلق أردوغان لمواقع الصدام مع الكرملين، نظرا لاعتماد الاقتصاد التركي على موسكو.
ويبقى السؤال إن كان أردوغان سيتمكن من التوفيق بين «طموحاته» العسكرية والسياسية في سورية وبين معارضة روسيا لسياسته، علما أنه قد سبق له أن أبدى تراجعاً في الماضي، ويبدو أنه سيجد نفسه مضطراً لإبداء المرونة في المواقف على غرار ما فعله في السابق.
Haaretz
ترجمة: ليندا سكوتي
التاريخ: الأربعاء 4-3-2020
الرقم: 17208