ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم : يفيض الحديث الأميركي هذه الأيام بتلوناته وتعدد استنتاجاته، وتدرج قناعاته، لكنه لا يستطيع أن يغلق ما يتشكل داخله من خواء، ولا يقدر على سد الفراغ السياسي المتزايد، فتُخرج مرتزقته ما في جوفها، في وقت تتسابق فيه التطورات لرسم ملامح المشهد القادم.
وحين يتحضر الأميركي لحزم حقائبه إيذاناً بإخلاء ما تبقى له من إشغالات في ملاعب لم يعد متاحاً له التجوال منفرداً فيها، تنوس على الضفة الأخرى هواجس ومخاوف حاملي أقنعته ونواطير بواباته، فيكثر الأميركي من اللغو, ويغرق في الشرح والتفسير، رغم انشغاله في تلمّس ما تبقى من أصابع أدواته المحترقة بالنيران التي أشعلها.
البحث الأميركي عن تموضع تلك الأصابع كان قد سبقته عملية استقصاء عن موضع قدمه في المواجهة الممتدة على أطراف قوس الأزمات المفتعلة في العالم، والمتشعبة داخل نقاطه الساخنة التي أشعلتها تلك الأصابع، ويأتي في سياق جردة الحساب المحتملة على وقع الرسائل المتواترة من غير اتجاه، وتضطر في كثير من الأحيان إلى تقديم كشف حساب مسبق لأدواتها وبعض مرتزقتها منعاً للالتباس في قراءة المدلول الأميركي حيال ما يجري.
وفيما اعتادت الإدارة الأميركية على سياسة الغموض وتقديم إيحاءات متباينة وأحياناً متناقضة، نرى بعض أجنحة القرار فيها وقد جنحت نحو تأسيس اتجاه يميل بطبعه إلى محاكاة تمنياته ورغباته التي تنطق في أغلب الأحيان بما تريده إسرائيل، ويحاول عبثاً الإجابة عن بعض الأسئلة المشتعلة هذه الأيام في ذهن أدواتها القائمة في المنطقة.
وفيما يتعثر الأميركي في خطواته بعد الحالة التي تقمصها إثر اضطراره للانخراط في التحضير للمؤتمر الدولي في جنيف، بات من العسير على الكثيرين الأخذ بقناعات الوزير كيري، خصوصاً حين تكون مخاوفه على الإسرائيلي هي التي تلون مواقفه وحساباته، وتحدد أولوياته، وقد تكون خلف تحضيراته لإخلاء الكثير من مواقعه في حلبة الصراع الدولي.
في هذا الوقت كانت الرسائل السورية تتواتر وتكثف حضورها في أكثر من اتجاه، وسجلت بريدها العاجل المزود بأوراق اضافية في محطات التجاذب السياسي، كما حجزت مقعدها في المنابر الدبلوماسية فقلبت الاتجاه صعوداً ونزولاً، كما بدلته ذهاباً وإياباً، وهي الرسائل التي اقتلعت مباشرة الكثير من الرهانات، ودفعت بالإسرائيلي ومعه الأميركي إلى رمي ما لديهما من إحداثيات، والمباشرة برسم أخرى لمواكبة سيل الرسائل السورية.. من إعلان مشاركتها في المؤتمر الدولي الذي يسحب آخر الذرائع من التداول، إلى ما تحققه قواتها على الأرض والتي تنتزع ما بقي لدى الاميركي من أوراق، وصولاً إلى تفريغ الخيارات الإسرائيلية من مضمونها، مروراً بتحجيم الأدوار الإقليمية والعربية.
على النسق ذاته كانت الرسائل الروسية تحاكي أولاً بأول ما يجري وتضيف إلى لائحة ما كتبته منذ بداية الأزمة وحتى اليوم سطوراً لم تكن قد وردت من قبل، وتعاطت معه بما يقتضيه من حرفية دبلوماسية، فرضت على الأميركي أن يخلي الكثير من مقاعده التي اعتاد على حجزها طوال عقود خلت، كما أملت عليه أن يسلم بعضاً من مساحات تجواله السياسي والدبلوماسي وحتى الإعلامي في ملاعب الآخرين.
وحين يبدأ الأميركي بإخلاء قسري أو بالتراضي، تنشغل المواقع الشاغرة بكنس ما علق واقتلاع ما نبت على هامش التمدد الأميركي لعقود خلت على غير وجه حق أو في غفلة من الزمن، وتترنح المصادفة السياسية، وتتخلى بحكم الضرورة الواقعية عن فرض شروطها، في حين تتراجع الظواهر المرضية وتغلق آخر بواباتها التي نفذت عبرها أدوار دول ومشيخات وأطراف وقوى, بما فيها تلك الباحثة في الوقت الضائع عما يؤخّر، ولو لبعض الوقت، هذا الاستعداد الأميركي لإخلاء مقاعده، وتؤجل بعض خياراته في التخلي عن مواقع وأدوار كانت حتى وقت قريب بعضاً من ملعبه السياسي والعسكري والاستخباراتي.
a.ka667@yahoo.com