المساعدات الدولية غموض الأهداف وسوء النتائج

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

كان اقتصاديو التنمية الأوائل مؤمنين بفكرة أن تدفق المصادر الأجنبية (الاستثمارات الأجنبية الخاصة والمساعدات) لها آثار ايجابية على التنمية. فالموارد الأجنبية تدعم التوفير الوطني وبالتالي تشجع على تكوين المزيد من رأس المال وتحسين مستوى الحياة المادية.
وفي بداية السبعينات بدأ الاقتصاديون من كلا الجانبين، المؤيدون للفكرة والمعارضون، بإعادة تقييم تلك الفرضية، وتوصلوا إلى الادّعاءات التالية:
1- الموارد الأجنبية اُستعملت لدعم الاستهلاك عبر الاستيراد غير الضروري، فهي لم تُستعمل لتحفيز الاستثمار.
2- أن قسماً كبيراً من المساعدات التي تدفقت إلى الدول النامية، وُجّهت إلى مشاريع باذخة لم تعط إلا القليل من المردود.
3- تدفق الأموال الأجنبية ترافقت معه مشاكل “خدمة الديون” تحمّلتها الدول النامية. كان مطلوب من تلك الدول المزيد من الصرف الأجنبي لمواجهة تكاليف الفائدة على المتراكم من الديون السابقة.
4- الاستثمارات الخاصة الأجنبية تركت آثاراً اجتماعية وسياسية سيئة. فالشركات العملاقة المتعددة الجنسية سيطرت على الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية.
5- ساهمت المساعدات في تكريس سلطة الحكومات الفاسدة وغير الكفوءة. العديد من تلك الحكومات كانت تستعمل الأموال القادمة من الخارج في قمع الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان.
لايزال النقاش مستمراً حول مدى فائدة المساعدات الاقتصادية الأجنبية. ذلك النقاش تطوّر باستمرار وأخذ أشكالاً أخرى خاصة فيما يتعلق بدور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في ما يسمى بقروض التسويات الهيكلية للدول النامية.
دوافع المساعدات
افترض الاقتصاديون أن المساعدات للدول النامية هي بسبب الرغبة في زيادة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للدول المستلمة لتلك المساعدات. غير أن الدول المانحة لم تخف حقيقة وجود مصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية خاصة لها، وهذا يطرح سؤالاً حول ما إذا كانت الأهداف من المساعدات مرتبطة بالمانحين أم بدوافع التنمية في تلك الدول.
يرى (E.R. Wittkopf) (1) هناك أربعة دوافع للمانحين في تقديم المساعدات للدول النامية وهي:
1- الأهمية السياسية للبلد المتلقي للمساعدة بالنسبة إلى البلد المانح.
2- عوامل الحرب الباردة.
3- حاجة البلدان المستلمة إلى المساعدة إلى الدعم والنمو الاقتصادي.
4- مدى توفر المصادر الأخرى للمساعدات.
يرى wittkopf أن الحرب الباردة كانت من أهم الاعتبارات بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الستينات في قرار منح المساعدات. أما في بريطانيا وفرنسا فكانت الاعتبارات السياسية والتجارية هي المقرر الرئيسي للمساعدات.
وفي آخر الدراسات في هذا المجال اُستخدم أنموذج معقد لحاجة البلد المستلم للمساعدة ونماذج أخرى لمصالح البلد المانح، تلك النماذج توضح طريقة تخصيص المساعدات إلى الدول النامية. حاجات الدول المستلمة يمكن قياسها بوسائل مثل الناتج القومي الإجمالي لكل فرد، أو نوعية الحياة المادية التي يعكسها المؤشر، أو النمو في الـ ناتج القومي الإجمالي أو أداء ميزان المدفوعات. فإذا كانت حاجة البلد المعني هي التي تقرر تخصيص المساعدات، ذلك يعني أن المال يجب أن يذهب إلى تلك البلدان الفقيرة وإلى الدول ذات النمو الضعيف والتي لديها مشاكل في ميزان المدفوعات.
إن الدراسة الإحصائية التي قامت عليها تلك النماذج أثبتت بأن المساعدات التي يقدمها طرف واحد، لا تأخذ في الاعتبار حسابات البلد المتلقي للمساعدة، مثال على ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وفرنسا، بل لدى هذه الدول دوافع أخرى للمساعدات. أما المساعدات التي يقدمها أكثر من طرف multilateral aid فإن حاجة البلد المتلقي للمساعدة هي الأساس في قرار المساعدات.
وبالنسبة إلى النماذج المتعلقة بمصالح المانحين Donor-interest models فهي تستعمل عدة متغيرات يتقرر بموجبها تخصيص المساعدات. وهذه المتغيرات هي:
1- المصالح السياسية والأمنية للبلد المانح. وهذا المتغير يصعب استعماله في الأنموذج، ولكن يمكن إدخاله ضمن أشياء معينة مثل وجود معاهدة دفاع، أو نقل الجيوش من البلد المانح إلى البلد المتلقي.
2- المصالح الاستثمارية للبلد المانح. والقياس الذي اُستعمل في هذا المتغير هو عدد الشركات التي تنشأ في البلد المانح وتعمل في البلد المتلقي للمساعدات.
3- المصالح التجارية: وفيها يكون للمانح مصالح هامة في تطوير رفاهية الدول النامية التي هي شريك تجاري رئيسي. فالبلد المتلقي للمساعدة يشتري صادرات البلد المانح وهو أيضاً يوفر ما يستورده ذلك البلد.
لقد أثبت الدليل العلمي أن العديد من المساعدات الممنوحة من طرف واحد bilateral تمت وفقاً للمصالح الاقتصادية والسياسية للبلد المانح، ولكن على صعيد التطبيق لا يوجد ما يؤكد أن تلك المساعدات حققت تلك المصالح. فالأهداف السياسية للمانحين هي في تصادم مع التنمية السياسية الطويلة الأجل للبلد المتلقي. في فيتنام والفيليبين ونيكاراغوا لم تتمكن الولايات المتحدة من تعزيز مصالحها الاستراتيجية الطويلة، ولم تنفذ سياسة خارجية منسجمة مع مصالح الولايات المتحدة. وفي الحقيقة، لا يوجد دليل قوي يثبت أن المساعدات يمكنها في الواقع أن تكرس مصالح المانحين في المدى البعيد، بل إن البعض رأى أن الدول المانحة حينما تدّعي أمام شعوبها أنها تدفع مساعدات لأجل تحقيق مصالحها الخاصة، إنما تضلل الناخبين ودافعي الضرائب. إن ما تقوم به جميع الحكومات المانحة، يجب أن يدخل ضمن إطار المسؤولية الأخلاقية تجاه الشعوب الفقيرة. وهذه المسؤولية الأخلاقية تستند إلى عدد من الحجج وهي:
1- الدول الغنية يجب أن تعوض الدول الفقيرة عن ماضيها الاستعماري وما رافقه من استغلال وسيطرة سياسية.
2- اعتبارات العدالة في توزيع الدخل تتطلب المزيد من إجراءات المساواة.
3- الدول الغنية ذات المصادر الطبيعية الكبيرة، يجب أن تتقاسم شيئاً من تلك الموارد مع البلدان المحرومة منها.
هل حققت المساعدات أهداف التنمية؟
يتساءل الاقتصاديون هل حققت المساعدات شيئاً جيداً، وماذا أنجزت؟

حاول (paul mosley) أن يجيب على هذا السؤال بالإشارة إلى مفارقة الجزئي – الكلي (micro-macro paradox). حيث أننا نجد على المستوى الجزئي، معظم برامج المساعدات كانت تعمل بشكل جيد. ولكن على المستوى الكلي لا يوجد دليل بوجود علاقة موجبة بين المساعدات والتنمية. فإذا كانت المساعدات تعمل بشكل جيد على المستوى الجزئي، فلماذا لا تعمل كذلك على المستوى الكلي؟ الجواب هو لا أحد يعرف فعلاً تأثير المساعدات على مستوى الاقتصاد الكلي، وذلك بسبب الغموض في النماذج النظرية للمساعدات والنمو وللمشاكل في اختبار الدليل. هذه الصعوبات الثلاث موضحة في أدناه:
1- التأثير السلبي للمساعدات على التوفير: يرى (Keith Griffin) أن الزيادة في المساعدات الأجنبية يُنظر إليها في البلد المتلقي كما لو أنها زيادة في الدخل. وهذا يعني إذا لم يكن الميل الحدي للتوفير واحد (unity) فإن المساعدات تُخصص بين الاستهلاك والتوفير. فرضية (غريفين) لقيت الدعم من عدد من الاختبارات الاقتصادية التي أكدت وجود علاقة سالبة بين تدفق رأس المال ونسبة التوفير، فإذا كان للمساعدات تأثير سلبي على التوفير فمن غير المحتمل (مع ثبات الأشياء الأخرى) أن تساعد المساعدات على تعزيز النمو الاقتصادي. ولكن من الممكن أن يؤدي التدفق الكبير للمساعدات والمستوى القليل لمتوسط الادخار إلى حدوث عامل ثالث مثل موسم حصاد سيئ.
من المؤكد أن المجاعة تقود إلى تدفق كبير للمساعدات، أو ربما في أوقات الأزمات الحادة نتيجة للحروب والاضطرابات السياسية، يقل التوفير ويزداد تدفق المساعدات. كذلك يمكن أن تُخصص المساعدات لملء فجوة التوفير. وفي هذه الحالة فإن التدفق الكبير للمساعدات إلى تلك الدول التي لديها ميل حدي قليل للتوفير، سيجعل العلاقة السالبة قوية بين الدعم والتوفير. ولذلك فإنه من غير المدهش ألا يتفق الاقتصاديون على العلاقة الاقتصادية الكلية بين المساعدات والتوفير، وهم يختلفون أيضاً في تفسير البيانات الميدانية.
2- الاستجابة المالية غير المرغوبة للمساعدات: المساعدات تقود إلى هبوط في الضرائب وفي التوفير العام. فالحكومات تستفيد من فرصة تدفق الأموال إلى الداخل لتخفف من الأعباء الضريبية على السكان. ومثال على ذلك باكستان حيث الاقتصاد متحرر من الضرائب والحكومة تستعمل المساعدات لدعم الإنفاق الحكومي. فإذا كانت المساعدات تُستعمل لخفض الضرائب والتوفير العام، معنى ذلك لن يكون لها أي تأثير إيجابي على تراكم رأس المال والنمو. بينما هناك آراء معارضة ترى إمكانية استعمال المساعدات في تحفيز المشاريع الخاصة.
3- تأثير المساعدات في سوء توزيع الدخل: حتى لو أن المساعدات تعزز النمو الاقتصادي، فإنها تبقى عرضة للمساءلة إذا كانت حقاً سبباً في إساءة توزيع الدخل. فالكثير من الاقتصاديين يشكّون في إمكانية أن تخفف المساعدات من الفقر. فالدعم عادة يذهب إلى الأغنياء وذوي السلطة الذين يستعملون نفوذهم كي يفيدوا مناصريهم. فالتنمية من الأعلى إلى الأسفل Top-down لا يُحتمل أن تفيد الفقراء.
يجب الإشارة إلى أنه لا يوجد إجماع بين الاقتصاديين على التأثيرات الثلاثة للمساعدات المشار إليها أعلاه. غير أن الدراسات التي أشارت إلى العلاقة السالبة بين النمو والمساعدات، هي أكثر من الدراسات التي تؤكد على العلاقة الإيجابية بينهما، ولكي تتم الإحاطة بجميع زوايا الموضوع، توصّل الباحثون إلى الاستنتاجات التالية:
1- أنهم لا يعرفون إلا القليل عن العلاقات الاقتصادية الكلية، ولا الطريقة الملائمة لاختبارها. ذلك يعني أن التحقيقات المعمقة والدقيقة للعلاقات على المستوى الكلي، ربما تكشف عن وجود ارتباط موجب.
2- أن نسبة المساعدات إلى الناتج القومي الإجمالي في العديد من الدول هي قليلة جداً. وذلك يعني أنه من الصعب التقاط علاقة بين النمو والمساعدات على المستوى الكلي في الدول المستلمة للقليل من المساعدات مثل دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
3- ربما يبالغ المانحون في تقدير مدى نجاح برامج المساعدات على المستوى الجزئي. ففي العام 1992 أشار تقرير البنك الدولي إلى أن 60% من خطط البنك في أفريقيا قد فشلت في خلق مردود اقتصادي.
4- حتى الخطط التي تنجح على المستوى الجزئي، ربما تكون لها آثار سيئة على المستوى الكلي، وهذا يشمل البرامج الموجهة نحو الفقراء. ففي رواندا مثلاً، أدّت المشاريع الزراعية الهادفة إلى إعادة توطين 9000 عائلة إلى خلق المزيد من المشاكل السياسية والاثنية مع نتائج كارثية على المستوى الكلي وعدم استقرار سياسي في المنطقة.
……………
الهوامش
‏(1) Wittkopf.E.R(1972)، تخصيص المساعدات الغربية الأحادية، SAGE, Beverley Hills.

التاريخ: الثلاثاء14-4-2020

رقم العدد : 994

آخر الأخبار
عودة النازحين.. حين تتحوّل فرحة الرجوع إلى معركة يومية للنساء استقرار سوريا.. رهان إقليمي ودولي وتحديات مفتعلة إدلب تطلق مؤتمرها الاستثماري الأول.. فرص واعدة لبناء مستقبل مستقر الضربة الأمريكية لإيران... بين التكتيك العسكري والمأزق الاستراتيجي تحالف حاضنات ومسرعات الأعمال السورية "SAIA" لتحفيز الابتكار إيران تستهدف قاعدة العديد بقطر رداً على الهجوم الأميركي عقوبات أوروبية جديدة تطول خمسة أشخاص على صلة مباشرة برئيس النظام البائد وزير الداخلية يُعلن تفكيك خلية لتنظيم داعش متورطة بتفجير كنيسة مار إلياس محافظ إدلب يستقبل المفوض السامي للأمم المتحدة لبحث دعم اللاجئين اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب تلتقي الفعاليات الثورية والمدنية بدرعا تأهيل المدارس بالتعاون مع "اليونيسكو" تفجير الكنيسة.. غايات الإرهاب تحطمها وحدة السوريين تعزيز الأمن السيبراني بالمؤسسات العامة وبناء الكفاءات الوطنية نقل الملكيات العقارية.. خطوة اقتصادية.. قيراطة لـ"الثورة": استئناف عمليات التسجيل بعد صدور التعليمات سلامة الغذاء في خطر .. إشارات سلبية جراء تفاقم انعدام الأمن الغذائي خبير اقتصادي للثورة: رافعة ضرورية لتحريك السوق الداخلية. الخطوط الحديدية تنقل 6000 طن قمح من مرفأ طرطوس  مستشفى اللاذقية الجامعي.. زيادات ملحوظة بالعلاجات .. وأقسام جديدة قداسٌ في السويداء عن راحة نفوس شهداء التفجير الإرهابي في الدويلعة تردي الخدمات في البويضة.. ورئيس البلدية لـ"الثورة": الإمكانيات محدودة