لا يرمز مبنى إلى العمارة الإغريقية بقدر ما يفعل معبد بارثينون الذي بُني في القرن الخامس قبل الميلاد على جبل الأكروبولس في مدينة أثينا. ففي هذا المعبد الذي يبلغ طوله 72متراً وعرضه 34متراً وارتفاعه 18متراً، تتجلى كل خصائص العمارة الإغريقية لجهة فخامة مخطط البناء، والمساحة والارتفاع ووفرة العناصر المعمارية والزخرفية والمنحوتات. إضافة إلى قيامه على نظام هندسي دقيق في حساب الأبعاد والنسب، يأخذ في الحسبان تلافي خداع البصر.
يحمل تصميم المعبد اسم اثنين من أهم المعماريين الإغريق (اكتينوس وكاليكراتس)، إلا أن الاسم الأكثر ارتباطاً به هو اسم نحات الإغريق الأشهر فيدياس، فقد أنجز فيه مجموعة من الأعمال النحتية الخالدة، منها المنحوتات الجدارية على أعلى واجهتيه وجدرانه، وتمثاله الأسطوري أثينا- بارثينيون من العاج وصفائح الذهب الذي يرتفع نحو 12 متراً في مركز المعبد. وهو تمثال لم يبق له أي أثر ، ومع ذلك فإن صوره منتشرة بوفرة على الأنترنت. كما صور المعبد بشكله الأصلي، في حين أن المعبد فقد على أرض الواقع الكثير من عناصره المعمارية والنحتية، بفعل الدمار الذي لحق به جراء المعارك بين العثمانيين والفينيسيين التي حولته لمجرد أطلال، فيما نقلت معظم بقايا منحوتاته إلى متحف الأكروبولس في أثينا، والمتحف البريطاني في لندن. فكيف كان هذا؟
في الواقع إن جميع صور تمثال أثينا- بارثينون هي لنسخةٍ طبق الأصل عنه. وكذلك الحال بالنسبة للمعبد بشكله الأساسي. ففي 1897 تم تشييد نسخة المعبد في حديقة سينتينيال بارك وسط مدينة ناشفيل عاصمة ولاية تينيسي الأميركية. وفي عام 1990 أعيد إنشاء تمثال أثينا بارثينوس محور البارثينون تماماً كما كان في اليونان القديمة. وهي خطوة تحمل في ظاهرها احتراماً كبيراً للثقافة الإنسانية، لكن في خلفيتها تفاصيل تحمل دلالات مغايرة. فحديقة سينتينيال بارك المترامية الأطراف كانت أرضاً زراعية لعائلة كوكريل، وكان مارك كوكريل يعرف باسم (ملك الصوف في العالم)، فقد كان لديه قطيع من الأغنام. وكان (يمتلك) ما يصل إلى 300 من الأفارقة الذين خطفوا من أوطانهم وأهلهم، وأجبروا على العمل كعبيد في مزارعه. وخلال الحرب الأهلية انحاز كوكريل بقوة إلى جانب جيش الولايات الانفصالية وأقرضه الذهب والصوف، فلما احتل جيش الاتحاد تينيسي، تم القبض عليه وسجنه. وبعد الحرب الأهلية تم تأهيل هذه الأرض مع أرض المعارض الحكومية و تسميتها باسم سينتينيال بارك. وأصبحت موقعاً ترفيهياً للبيض في ناشفيل. ولم يُسمح للأمريكيين من أصل أفريقي استخدام الحديقة المدعومة بدولارات الضرائب التي يدفعونها، استناداً إلى قانون جيم كرو الذي أخذ اسمه من أغنية ورقصة ساخرة عن السود أداها عام 1832 ممثل أبيض بمكياج أسود، و أصبحت تعبير تحقير يعني (الزنجي). وعندما صدّقت المجالس التشريعية الجنوبية على قوانين الفصل العنصري – الموجهة ضد السود – في نهاية القرن 19، أصبحت هذه القوانين تعرف بقوانين جيم كرو وقضت بالفصل بين البيض والسود في المدارس الحكومية، والأماكن العامة، والنقل العام، والمرافق العامة، والمطاعم، ونوافير الشرب، وحتى في الخدمة العسكرية.
أدى هذا الفصل إلى أن تضاؤل الفرص المتاحة أمام الأميركيين من أصول أفريقية مقابل تلك التي ينعم بها البيض. وكان هناك، منهج للتمييز الاقتصادي و التعليمي والاجتماعي. وعلى الرغم من هناك قرارات أصدرتها محاكم عليا متعددة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الميلادي، وقوانين الحقوق المدنية لعامي 1964 و 1968 أقرّت بعدم شرعية أغلب هذه القوانين في الولايات المتحدة، فإن أثارها تبدو واضحة اليوم.
وربما أكثر من أي وقت مضى.
إضاءات – سعد القاسم