بعد حروب ساخنة وباردة، ونزاعات عصفت بدول العالم في القرن الماضي، وتركت آثارها المدمرة حيث حلّت، وحيث ترددت أصداؤها، وظلت تبعاتها تطارد مختلف أنظمة الحكم، والإيديولوجيات التي تنتظمها، بعد كل ذلك كان على الفكر السياسي أن يتجه إلى البحث عن حلول يكون فيها التوازن بين القوى التي تحكم العالم وهو يدخل إلى عصر جديد يتسق فيه مع الثورة التكنولوجية، ويتوافق معها بشكل تام وهي تعمد إلى التقليص من مجالات استخدام اليد العاملة لتحل الآلة محلها.. فكان ظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي جاء بتغييرات جذرية في السياسات، وفي التصدي للمشكلات التي يواجهها العالم، وتستدعي التعاون الوثيق بين الدول لتوحيد الجهود، والتنسيق فيما بينها.
هذا النظام الجديد بما يدعيه من أن العالم أصبح قرية واحدة تستدعي التعاون والتصالح حتى في المصالح بين الدول بما يضمن استقرار الشعوب، وتحقيق العدالة في مجتمعاتها.. أقول إن هذا النظام يبدو أنه لم يستطع أن يفي بكامل وعوده في إطفاء الحروب بكل أشكالها، وقد دخلت إليها الحروب الإلكترونية المعلنة منها والخفية، وها قد أضيفت إلى مسؤولياته ما استجد من مكافحة الأوبئة، وما ينالها من أقوال في سر نشأتها، وانتشارها!
بل ماذا بعد سلالات الأوبئة التي بدأت بوادرها في الظهور، وهي تنتشر على مساحة الأرض كلها، والأخبار التي تُبثّ من حولها في مسبباتها، وفي علاجها، والوقاية منها في تناقض مستمر، وهي تتغير، وتتبدل بين ساعة وساعة، فما يشكل خطراً اليوم قد يصبح غداً غير ذي أهمية، والعكس بالعكس حتى كدنا لا نعرف أين تختبئ الحقائق.. والآراء المتضاربة تنشب بين مَنْ يؤيد هذا، ومَنْ يعارض ذاك، وبين مَنْ يصدق الأول، ومَنْ يكذب الآخر، وبين ما هو صحيح، وما هو خطأ، وكل ذلك ينتشر عبر شبكة المعلومات، وما تحتوي عليه من مواقع للتواصل، وغير التواصل.
وبعد ما رأيناه من احتجاجات، وتظاهرات تسود الولايات المتحدة إثر حادثة عنصرية ذاعت أخبارها في كل الدنيا، وما رافقها من مظاهر عنف حتى كادت تفكك ما هو متحد، وبعدما عمَّ من فوضى في أرجاء تلك الدولة الكبرى، والتي تصف نفسها بأنها «عظمى»، وظهور الجماعات المتطرفة فوق أرضها.. وانتقال التظاهرات إلى عدة مدن أوروبية في احتجاج على ما يُمارس من العنف في ساحات المدن.. نتساءل: هل انقلب النظام العالمي الجديد إلى دمار عالمي جديد ينشر رسائله، وينتشر مع الوباء الجائر الذي انهارت على إثره اقتصادات الدول كافة، ولتعود التفرقة العنصرية بين أبيض وأسود لتظهر إلى الساحة كجمرات مشتعلة كانت مخبأة تحت الرماد، أو أن جرثومتها ما تزال كامنة في النفوس، ولم تُقتلع بعد من العقول حتى بعد أن ولَّى زمن العبودية، وانتهت فكرة استعباد الآخر؟.
أم أنها عبودية من نوع جديد آخذة بالظهور إلى ساحات العلن تحت مظلة هذا النظام العالمي بعد أن حيكت خيوطه بخبث ودهاء في الخفاء.. فتُسنُّ بناءً عليها القوانين الجائرة التي تسحق الشعوب، ولا تضمن لها حريتها والعدالة التي تُنشدها، وقد وُعدت بها؟.
إن ما يجري الآن على الساحة العالمية من اضطراب يترافق مع الوباء الذي تنهمر الأخبار حوله، وتظهر بحقه عشرات التبريرات، والتفسيرات، وما يحيط بالتعاون العالمي الذي يجب أن يكون موحداً في مواجهة (كورونا) يكاد يشبه ما أنتجته عاصمة السينما (هوليود) من أفلام أغرقت بها أسواق المُشاهدة.. و(هوليود) هذه التي تصف نفسها بأنها محايدة هي في حقيقتها ليست بريئة.. فما زرعته بالأمس يُحصد اليوم، وما صدرته إلى العالم من أفلام الجرائم، وما حرضت به على العنف أصبحنا نراه الآن في شوارع العواصم الكبرى، ومنه ما وصل إلى حد تحطيم النصب التذكارية لديهم، وتماثيل رموزهم الوطنية. وكذلك هي ألعاب الفيديو التي تقوم على فكرة الخصومة، والنزاع، وبالتالي هزيمة الآخر، أو قتله من دون تبرير، فها هي اليوم تُنفذ مساراتها على أرض الواقع لا على شاشة حاسوب.
والعالم الذي أجبره الوباء على أن يلبس قناعاً واقياً يخفي وجهه تحته هل سيحاسب نفسه قبل أن ينزع قناعه ليواجه التاريخ الذي يسجل قبل أن يحاسَب؟!.
إضاءات ـ لينــــا كيــــــلاني