ثورة أون لاين – ترجمة ميساء وسوف:
أثار تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضجة في تشرين الثاني الماضي عندما قال إن الناتو يعاني من “موت دماغي” وذلك عندما حاولت الدول الأعضاء تبرير وجود الناتو، وقد خلق هذا التعليق المفاجئ موجة من ردود الفعل المختلفة.
يجب أن تؤخذ تعليقات ماكرون على محمل الجد عند الأخذ بعين الاعتبار أن فرنسا في عام 1959 سحبت أسطولها المتوسطي من قيادة الناتو، كما غادر الجيش الفرنسي عام 1966 القيادة العسكرية المتكاملة للناتو، وطالب جميع جنود الحلف الأجانب بمغادرة فرنسا، وقتها حاول وزير الخارجية الأميركي “دين راسك” إدانة القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي شارل ديغول بطرد الجنود الأجانب متسائلاً عما إذا كان هذا القرار سينطبق أيضاً ” على جثث الجنود الأميركيين الموجودة في المقابر الفرنسية” والذين ماتوا في الحربين العالميتين، وفيما إذا كان يتوجب عليهم أن يغادروا أيضاً!!!.
لقد قاوم ديغول الهيمنة الأنجلو أميركية، ويمكن القول إن ماكرون يحاول الآن إعادة ماء الوجه الذي خسرته فرنسا عام 2009 عندما أعاد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي دمج فرنسا في حلف شمال الأطلسي. يبدو واضحاً أن ماكرون يتبع في خطواته الرئيس السابق ديغول عندما قال إن أراضي أوروبا تمتد إلى فلاديفوستوك بالقرب من الحدود الصينية والكورية الشمالية.
ومع ذلك فإن هجمات ماكرون اللاذعة ضد الناتو لم تنته بهذا التعليق، ففي حزيران 2020 قال ماكرون إن الحادث البحري الفرنسي التركي كان “أحد أكبر العلامات بأن هناك “موت دماغي” للناتو، وذلك عندما قامت سفينة حربية تركية بمضايقة سفينة تابعة للبحرية الفرنسية تشارك في مهمة للناتو، ما دفع وزارة الدفاع الفرنسية إلى القول “إن هذا عمل عدواني للغاية وغير مقبول من قبل “حليف” ضد سفينة تابعة للناتو وإن هذه مسألة خطيرة ولا يمكن القبول بتصرف أي من الحلفاء بهذه الطريقة، بالاعتداء على سفينة تابعة للناتو، وتحت قيادة الناتو وأثناء القيام بمهمة تابعة للناتو”.
إن تركيا تحاول من خلال تعزيز موقعها العسكري الجغرافي والاستراتيجي على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا والسيطرة على المضيق في البحر الأسود، موازنة علاقاتها مع الناتو وروسيا لمتابعة أطماعها في السيطرة على المنطقة بأكملها، بما في ذلك المنطقة الشرقية للبحر المتوسط. ويواصل الناتو تحمّل التصرفات الأحادية والعدوانية التركية، كما يتسامح بشكل كبير للغاية مع العدوان التركي لدرجة أنه يصمت دائماً على الانتهاكات اليومية التي ترتكبها تركيا للمجال الجوي والبحري اليوناني، على الرغم من أن اليونان عضو في حلف الناتو.
فاليونان ليست ذات أهمية جغرافية استراتيجية بالنسبة للناتو مقارنة بتركيا، لذلك يتجاهل الناتو العدوان التركي المتكرر عليها ويتسامح مع تركيا.
لكن العدوان التركي على قوة نووية مثل فرنسا كان عدواناً لا يمكن تجاهله ولن يتم تهميشه وتجاهله أبداً، لقد ارتكبت أنقرة خطأً فادحاً في الظن أن ما ترتكبه من عدوان ضد اليونان ستتحمله وتقبله فرنسا.
ففي الوقت الذي تدعم فيه تركيا حكومة “الإخوان المسلمين” المتمركزة في العاصمة الليبية طرابلس وحلفاءها وتحميهم، فإن فرنسا تدعم منافسيها من الطرف المقابل أي الجيش الوطني الليبي. وقد كان هذا سبباً آخر للانقسام بين فرنسا وتركيا، الأمر الذي دفع ماكرون إلى القول: “أعتقد أن هذه مسؤولية تاريخية وإجرامية لشخص يدعي أنه عضو في الناتو”. كما أنه أدلى بتعليقات بعد إجراء محادثات مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تعتبر أقرب حليف لتركيا في أوروبا. وأضاف أن سلوك تركيا في ليبيا “غير مقبول بالنسبة لنا” وأن أنقرة بحاجة إلى “توضيح موقفها بشكل عاجل”.
إن ماكرون لا يخفي على الإطلاق ازدراءه للحكومة التركية وللناتو على حد سواء. كما أنه الزعيم الغربي الوحيد المنفتح على العلاقات الودية مع روسيا. والآن تضغط فرنسا من أجل تشكيل “جيش أوروبي” خارج إطار حلف الناتو. ويبدو أنه مع استمرار الحلف في التسامح مع الأعمال العدوانية التي تقوم بها تركيا في البحر الأبيض المتوسط، فإن هذا قد يؤدي إلى دفع فرنسا بعيداً عن الناتو، وهذا تحول مثير للاهتمام للأحداث بالنظر إلى العامين الماضيين حيث كانت هناك تكهنات بأن تركيا تم إبعادها عن الناتو بسبب استحواذها على نظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400.
إن تسامح الناتو المستمر للعدوان التركي الذي يهدد حتى الدول الأعضاء يمكن أن يكون العامل المحفّز الذي سيدفع فرنسا إلى مغادرة الحلف مرة أخرى.
وعلى الرغم من أن نتائج استطلاع “Pew” الذي أجري في شباط الماضي بيّن أن 37 ٪ فقط من اليونانيين هم من المؤيدين للناتو ، وهو ثاني أدنى مستوى تم استطلاعه فإن النخبة السياسية اليونانية ستظّل خاضعة للناتو، على عكس مصالح اليونان ومخاوفها الدفاعية، ومن غير المرجح أن تغادر اليونان الناتو.
وقد وجد الاستطلاع نفسه أن 49 ٪ فقط من الفرنسيين هم من المؤيدين لبقاء فرنسا في الناتو، وقد انخفضت النسبة بالتأكيد بعد تصريحات ماكرون الأخيرة وبعد الاعتداءات التركية ضد البحرية الفرنسية.
إن استمرار الناتو في تهدئة العدوان التركي حتى ضد الدول الأعضاء الأخرى في الحلف قد يدفع فرنسا إلى مغادرة الناتو حيث يعد ماكرون نفسه ليكون “شارل ديغول” فرنسا في القرن الحادي والعشرين.
المصدر : The Duran