«معطف» غوغول وتمرد الإنسان المقهور

 

الملحق الثقافي:جودت هوشيار:

«المعطف» رواية قصيرة للكاتب الروسي نيكولاي غوغول، شكلت نقطة تحوّل مفصلية بالغة الأهمية في الأدب الروسي، وامتد تأثيرها إلى مجمل الأدب العالمي، فقد كانت جديدة في موضوعها وأسلوبها الساخر الكوميدي – المأساوي، والأهم من ذلك أنها كانت أول قصة عن «الإنسان المقهور» – من حيث موقعه في السلم الاجتماعي بصرف النظر عن صفاته الشخصية – وما يعانيه من ظلم اجتماعي وانتهاك لكرامته الإنسانية، في حين كان الأدب السردي الروسي قبل «المعطف» يتناول في المقام الأول، حياة ومشاغل الطبقة المرفهة من الإقطاعيين والنبلاء، وأصحاب السلطة والنفوذ في المجتمع.
في «المعطف» تهكم لاذع، وانتقاد شديد للقيم الاجتماعية الزائفة، التي كانت سائدة في المجتمع الروسي في العهد القيصري. وتوحي القصة بفكرة الحاجة إلى بنية اجتماعية أكثر إنسانية وعدالة. ولهذا أصبحت الأفكار والصور، التي تزخر بها قصة «المعطف» معيناً لا ينضب للكتاب الروس الآخرين، وفي وقت لاحق للعديد من الكتّاب الأجانب في شتى أنحاء العالم.
قصة «المعطف» بضمير المتكلم، والراوي على دراية جيدة بحياة الموظفين. بطل القصة أكاكي أكاكفيتش باشماتشكين؛ موظف صغير في إحدى إدارات سانت بطرسبورغ. وهو شخص بائس  وذليل. ويقول غوغول إن أكاكي أكاكيفتش: «رجل قصير القامة، مجدور الوجه، بشعر مائل إلى الاحمرار، ضعيف البصر. له صلعة صغيرة في مقدمة رأسه، وتجاعيد على خديه. وكان زملاء العمل، يستخفون به استخفافاً يقابله بلا مبالاة، وردًا على أي إهانة توجه إليه، كان يكرر عبارة واحدة لا تتغير: «دعني وشأني، لماذا تسيء إليًّ؟ حتى الحراس في الدائرة كانوا ينظرون إليه كمكان فارغ حين يمر أمامهم، كما لو أن ذبابة حلقت عبر غرفة الاستقبال. وكان هناك شيء غريب في كلماته وصوته – كان فيه شيء ما يدعو إلى الشفقة».
البناء السردي في «المعطف» مبتكر، حيث تتحول الصورة الهزلية لـ أكاكي أكاكفيتش تدريجياً إلى صورة مأساوية .
أسلوب ساخر كوميدي – مأساوي
الخياط الذي قام بترقيع المعطف مرات عديدة، رفض ترقيعه مرة أخرى، لأنه أصبح رثاً بالياً، بحيث لم يعد بالإمكان إصلاحه. ونصح أكاكي أكاكافيتش بتفصيل معطف جديد له، ولكن الموظف الصغير البائس، لم يكن يملك أي مال، ففرض على نفسه حالة من التقشف الصارم، لكي يستطيع تأمين ثمن المعطف الجديد: في المساء لا يشعل الشموع، لا يشرب الشاي. يمشي في الشوارع خفيفاً وبعناية شديدة، «تقريبًا على أطراف أصابعه»، لكي لا «يمسح الحذاء سريعاً، ولم يعد يعطي ملابسه المتسخة لغسالة الملابس إلا نادراً. ويقول غوغول: «في البداية كان من الصعب إلى حد ما أن يعتاد أكاكي أكاكافيتش على مثل هذه القيود، ولكن بعد ذلك اعتاد عليها بطريقة ما، وتكيّف معها بسلاسة؛ حتى إنه كان معتادًا تمامًا على الجوع في المساء، ولكنه كان يتغذى روحياً، حاملاً في ذهنه الفكرة الأبدية للمعطف المستقبلي. يصبح المعطف الجديد حلمًا ومعنى لحياة أكاكي أكاكافيتش».
هذا هو المعطف الجديد جاهز الآن. ولهذه المناسبة يقيم زملاؤه مأدبة على شرف المعطف. أكاكي أكاكفيتش السعيد لا يلحظ أنهم يسخرون منه. وفي الليل عندما كان في طريقة إلى مسكنه، هاجمه اللصوص وانتزعوا منه معطفه الجديد. سعادة هذا الإنسان لم تدم سوى يوم واحد، عندما ارتدى معطفه الجديد. في اليوم التالي جاء أكاكي أكاكافيتش إلى مقر عمله شاحب الوجه مهموماً، وهو يرتدي معطفه القديم المهلهل، الذي أصبح رثاً وبالياً أكثر من السابق. ثمّ ذهب إلى مركز الشرطة طلباً للمساعدة، ولكن لم يلتفت أحد إلى شكواه. فلجأ إلى «مسؤول مهم» لعله يساعده في استعادة معطفه الجديد، ولكن المسؤول طرده شر طردة، ورفض سماع شكواه. أثرت هذه الصدمات المتلاحقة في نفس أكاكي أكاكفيتش لدرجة أنه لم يستطع تحملها. وسرعان ما مرض ومات. «اختفى إلى الأبد مخلوق لم يكن محمياً من أحد. ولا عزيزاً على أي أحد، ولم يهتم به أحد. ولم يشعر بالسعادة في حياته، إلا حين أضاء المعطف الجديد حياته الكئيبة ليوم واحد».
ويقول غوغول إن موت «إنسان صغير» لم يغير شيئاً في القسم الذي كان يعمل فيه، وسرعان ما حلّ موظف آخر محله ببساطة.
رغم أن «المعطف» قصة نموذجية لحياة لرجل مقهور في مدينة كبيرة، إلا أنها تنتهي بشكل خيالي. فبعد وفاة أكاكي أكاكفيتش يظهر شبح هائل الحجم في شوارع سانت بطرسبورغ ليلاً، ويقوم بانتزاع معاطف المارة. البعض شبه الشبح بأكاكي أكاكفيتش والبعض الآخر لم يجدوا أي شيء مشترك بين الشبح السارق وبين الموظف الخجول المتوفى.
ذات ليلة التقى الشبح «المسؤول المهم» وجهاً لوجه وقام بتمزيق معطفه. وأثار الرعب والهلع في نفسه إلى درجة أنه خشي من آثار هذه الواقعة على صحته. بعد هذا الحادث بدأ هذا المسؤول في التواصل مع الناس على نحو أفضل.
تشير نهاية القصة إلى أن المؤلف. يتعاطف مع مصير «الإنسان المقهور». ويدعونا إلى أن نكون منتبهين لبعضنا البعض، وكأنه يحذر من أن الشخص المسيء سيكون مسؤولاً في المستقبل عن إساءاته للناس.
قصة المعطف تعكس ثنائية التعاطف والسخرية في أسلوب غوغول، وتؤكد أن الموظف الصغير المقهور قادر على التمرد والانتقام.
«الإنسان المقهور» في آداب الشعوب
منذ نشر قصة «المعطف» تناول معظم الكتّاب الروس ثيمة «الإنسان المقهور» على نطاق واسع. ويمكن القول إنه لا يوجد كاتب روسي – منذ نشر معطف غوغول – لم يتناول «الإنسان المقهور» في أعماله وفي مقدمتهم إيفان تورغينيف، وفيودور دوستويفسكي، وأنطون تشيخوف، وميخائيل زوشينكو.
لقد اعتاد الباحثون والنقّاد الروس على إقحام اسم أمير الشعراء الروس ألكساندر بوشكين في كل صغيرة وكبيرة في الأدب الروسي، والإشادة بريادته في كل ما أحرزه هذا الأديب من إنجازات عظيمة. وهم يقولون إن بوشكين هو أول من صوّر الإنسان المقهور، ويسميه الروس «الإنسان الصغير» في قصة «ناظر المحطة». أجل ثمة «رجل صغير» في هذه القصة، ولكنه ليس مسحوقاً ولا متمرداً، ولا علاقة بين «ناظر المحطة» وبين رائعة غوغول «المعطف» وأسلوبه المتفرد، الذي يمتزج فيه التعاطف والشفقة بالتهكم والسخرية. ناظر المحطة لم يتمرد على واقعه البائس، ولم يفكر في الانتقام من الضابط الذي أغوى ابنته، وحرمه من رؤيتها. تخطى تأثير قصة «المعطف» حدود روسيا إلى الآداب الأخرى. وأصبح «الإنسان المقهور» البطل المفضل لمئات الكتاب الآخرين في أنحاء العالم جيلاً بعد جيل.
ويبدو تأثير قصة «المعطف» واضحاً في الكثير من قصص كبار الكتّاب الغربيين والعرب، منهم فرانز كافكا، وشيروود أندرسون، وجيمس جويس، ونجيب محفوظ وغيرهم.
قارن الكاتب الروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف – خلال محاضرة له في إحدى الجامعات الأميركية – بين قصة «المعطف» لنيكولاي غوغول، وقصة «التحول» لفرانز كافكا. إنسانية بطل القصة في كلتا الحالتين تفصله عن الناس الآخرين من القساة، عديمي الضمائر والشفقة، حيث نجد البطل يقوم بتمزيق شرنقته، ويتخطى حدود الهوية المفروضة عليه، ليتحول إلى شبح هائل.
قال غابريل غارسيا ماركيز: «إن الواقعية السحرية لأميركا اللاتينية مدينة إلى حد كبير لقصة (المعطف) لغوغول».
قصة نجيب محفوظ «المقابلة السامية» – المنشورة في مجموعته القصصية «الجريمة» – تتناول مشكلة الموظف الصغير المنسي، الذي يعمل في قسم الأرشيف، ويعاني من نظام بيروقراطي ظالم، يسود فيه التسلسل الهرمي للسلم الوظيفي والاجتماعي. هذا السلم الذي يقضي على أحلام الإنسان المقهور في مجتمع يفتقر إلى العدالة الاجتماعية.
حاول موظف الأرشيف مقابلة مدير عام المصلحة، ولكن ساعي السكرتير الخاص، لم يسمح له بالدخول، ونصحه أن يكتب حاجته على عرضحال وإرسالها بالطريق الإداري المتبع. مرت مدة طويلة، تابع موظف الأرشيف خلالها سير شكواه دون جدوى، وأخيرا تمًّ حفظ الطلب. ولكنه لم ييأس، وأخذ يتحرى مواعيد المدير العام وحركاته وسكناته، وقرر ألا يذعن للقوة الباغية، ولا للأوامر المكتبية العمياء. وأراد عرض طلبه على المدير العام مباشرة لدى خروجه من المصلحة في نهاية الدوام الرسمي.
يقول موظف الأرشيف: «وعندما حاذاني في سيره بسملت ثم وثبت نحوه لأجثو بين يديه مستعطفاً. وصاح رجل: المجنون.. حذار يا صاحب السعادة. ووقع اضطراب شامل وضوضاء عالية. لم يدرك ما حدث فقد حوصر تحت ضغط عشرات من الأيدي القوية، ووجهت إليه تهمة الاعتداء على المدير العام انتقاماً لحفظ طلبه. وقد تعلم في السجن حرفة النجارة، وفي ميدانها يكدح اليوم لتربية الأولاد؟
كما نجد تأثير قصة «المعطف» واضحاً في رواية أحمد سعداوي «فرانكشتاين في بغداد». حيث يقوم بطل الرواية هادي العتاك «بائع عاديات من سكان حي البتاويين وسط بغداد بجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية، التي حدثت في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق، ليقوم بلصق هذه الأجزاء فينتج كائناً بشرياً غريباً، سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من الإرهابيين القتلة.
وثمة اليوم مئات القصص المشابهة في آداب شعوب العالم.
لو لم يكتب نيكولاي غوغول سوى قصة «المعطف» الرائدة، لكان ذلك كافياً لخلود اسمه في تاريخ الأدب العالمي.

التاريخ: الثلاثاء14-7-2020

رقم العدد :1005

 

 

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم