الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
يتصف المشرق العربي القديم (سورية القديمة – بلاد الرافدين – مصر القديمة) بأنه المهد الأول للحضارة الإنسانية، فهنا نشأت الحضارات الأقدم في تاريخ البشرية، كالحضارات السومرية والأكادية والبابلية والإبلوية وغيرها، وفي أودية أنهار هذه المناطق وسهولها عرف الإنسان الأول، ولأول مرة في حياته، الزراعة والاستقرار، وبناء البيوت والمعابد، وصناعة الأواني الفخارية والأنسجة، وبناء القرى والمدن، ونشوء الدول والممالك.
وهذه الإنجازات المهمة والحاسمة في تاريخ البشرية لم تكن عمل الرجل وحده، بل ساهمت معه المرأة في تحقيق ذلك بوضوح. إذ أظهرت المكتشفات الأثرية أن المرأة لعبت دوراً مهماً في حياة المجتمعات الأولى التي نشأت في عصور ما قبل الكتابة؛ دور ديني أكّد المكانة البارزة التي كانت للمرأة في مجال المعتقدات الدينية، والذي تمثل في ظهور الآلهة المؤنثة قبل الآلهة المذكرة، ودور دنيوي.
وانطلاقاً من هذه الأهمية التي حظيت بها المرأة في المجتمعات القديمة، والأدوار العديدة التي قامت بأدائها منفردة، أو جنباً إلى جنب مع الرجل، يأتي كتاب (تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم)، تأليف: د. عيد مرعي، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب. يأتي هذا الكتاب للحديث عن تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم، وتبيان الدور الأهم لها في المجال الديني أولاً، حيث كانت إلهة أو كاهنة تهب الخير والخصوبة للإنسان من خلال التوالد والإنجاب. ومن ثم في المجال الدنيوي إذ اعتلت العرش الملكي شريكة لزوجها، أو ملكة وحدها تدير الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها، بمهارة وذكاء، وكل ذلك بالاعتماد على مراجع ومصادر عربية وأجنبية موثوقة في هذا المضمار.
المرأة في مملكة ماري
ينسحب هذا الكتاب على ثلاثة فصول، يتناول الأول منها الحديث عن تاريخ المرأة في سورية القديمة، ومن ضمن الأبواب التي اندرجت تحت هذا الفصل باب يتناول تاريخ المرأة في مملكة ماري التي تعدّ من أشهر مدن الشرق القديم، وتقع على الضفة اليُمنى لنهر الفرات، وقد تم اكتشافها مصادفة عام 1933.
تظهر المكتشفات الأثرية والوثائق المكتوبة التي عُثر عليها في هذه المدينة وجود جناح في قصر ماري مخصص لسكنى النساء من زوجات الملك وأمه وبناته ونساء العائلة المالكة عموماً. ويُعرف من النصوص المكتشفة التي بلغ عددها نحو 25 ألف لوح وكسرة لوح أن “زمري ليم” آخر ملوك ماري كان متزوجاً من 12 امرأة من مدن وممالك مختلفة، وذلك بغية توثيق العلاقات مع هذه المدن والممالك فيما عُرف بالزواج السياسي. ويأتي في مقدمة زوجاته التي اشتهرت أكثر من غيرها الأميرة الحلبية “شيبتو” ابنة “ياريم ليم الأول” ملك مملكة يمحاض، والمدعوة “يتار – آيا”، و”شاوم – نيرزي”، وعازفة موسيقية تدعى “بيلتاني”.
وعُثر في مدينة ماري كذلك على عدد من التماثيل والمنحوتات النسائية الرائعة، منها تمثال “ربة الينبوع” المنحوت من حجر كلسي بطول 150 سم، وتمثال آخر منحوت من الألباستر لسيدة تجلس على كرسي من دون مساند، يُعتقد أنه يمثل إحدى كاهنات ماري الكبرى، إضافة إلى تمثال المغنية الكبيرة، والموسيقية والراقصة المشهورة “أورنانشي” المنحوت من حجر كلسي. وإن وجود هذه التماثيل والمنحوتات في ماري، والدقة العالية التي نّفذت بها، إنما يدل على مكانة المرأة الكبيرة في مجتمع مملكة ماري، وعلى ازدهار الحياة الفنية فيها في زمن إنجاز هذه المنحوتات.
المرأة في العصر الآشوري الحديث
يتناول أحد أبواب الفصل الثاني من هذا الكتاب، الذي يتعرض للحديث عن المرأة في بلاد الرافدين، تاريخ المرأة في العصر الآشوري الحديث، الذي تميّز بأنه عصر قوة وتوسع وسيطرة على بلدان كثيرة في الشرق الأدنى القديم.
وقد كشفت الحفريات الأثرية التي أجريت تحت أرضية القصر الجنوبي الغربي للملك “آشور ناصر بال” الثاني في موقع مدينة كلخو، عن مدافن عدد من زوجات الملوك الآشوريين الذين ظهروا في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، من أمثال “موليسو – موكانيشات – نينوى”، كما تم العثور على مدفن المدعوة “يابا” إحدى زوجات الملك “تيكلات بيلبصر” الثالث، التي تعود بأصولها إلى سورية.
وقد عُرف من خلال رسالة مكتوبة بالخط المسماري واللغة الأكادية اكتشفت في قصر الملك “آشور بانيبال” بعض المعلومات عن نساء القصر، وعن مدى عنايتهن بتجميل أنفسهن، وعن وجود نساء مختصات بكل ما يتعلق بزينة المرأة وتصفيف الشعر وصبغه.
وإذا انتقلنا إلى صعيد الحكم والسياسة نلاحظ بروز عدد من النساء على مسرح الأحداث السياسية في بلاد الرافدين، وأشهرهن “سميراميس” التي تّعدّ إحدى أشهر نساء العالم القديم. وتذكر المصادر الآشورية أن “سمورامات” وهو الاسم الأصلي الذي حرّفه الإغريق إلى “سميراميس” هي زوجة الملك الآشوري “شمشي آدد” الخامس، وعلى الرغم من عدم وجود أي معلومات عن “سمورامات” أو تسميتها بأي لقب ملكي، فإن وجود نصبها بين أنصاب ملوك آشوريين يدل على أنها كانت ذات مكانة معتبرة في البلاط الآشوري، وأدت دوراً مهماً في عهد زوجها “شمشي أدد”، وعهد ابنها “أدد نيراري” الثالث، ولا سيما قيامها في تثبيت السلطة الملكية لصالح ابنها، والحفاظ على قوة الدولة الآشورية ووحدتها وهيبتها.
المرآة المصرية في عهد المملكة القديمة
إن الابنة في مصر القديمة كان يمكن أن ترث أباها على العرش الملكي، إن لم يكن لديه ولد ذكر يخلفه، وكانت من مهماتها الأساسية كملكة، تسيير شؤون الدولة بمساعدة وزراء وموظفين كبار ورجال جيش وكهنة ورجال دين، ولكن دون أن ينسيها ذلك عملية الحمل والولادة لإنجاب ورثة للعرش الملكي. وكانت تطلق على الملكة ألقاب دينية ومدنية كثيرة، تعبر عن سلطتها ومهامها وصفاتها، مثل: سيدة الأرضين، والزوجة الملكية العظمى، والأميرة الوارثة، وسيدة العطاء، وسيدة كل النساء.
ويعدد هذا الباب، ضمن فصل (تاريخ المرأة في مصر القديمة)، أبرز النساء اللواتي عرفتهن مصر في عهد المملكة القديمة، ولعل أولى هؤلاء النساء هي الملكة “ميريت نت” التي تُنسب إلى الأسرة الأولى، والتي يمكن عدها أول امرأة تحكم في تاريخ البشرية. إضافة إلى الملكة “نيماعت – حاب”، والملكة “حوتيب حوروس” والدة الملك “خوفو”، والملكة “ميريت إتس” والدة الملك “خفرع”.
وقد حظيت المرأة المصرية كذلك بلقب أقدم طبيبة معروفة في التاريخ، ومن أشهر الطبيبات فيها “ميريت – بتاح”، والسيدة “بيسيثسيت”. وتبعاً للوثائق المصرية المكتشفة فإن المدعوة “نيبيت” أصبحت أول امرأة تتسلم منصب وزير في مصر القديمة، إذ كانت وزيرة الملك “بيبي” الأول.
التاريخ: الثلاثاء28-7-2020
رقم العدد :1007