الملحق الثقافي:محمد خالد الخضر:
الحالة الشعرية ليست هدفاً يحققه الإنسان في بدايات ظهورها، لكنها موهبة تتوفر فيها أسس ثابتة تدل على صحة وجودها وقوة عطائها، ولابد لنا أن تسترجع نشوء أي ظاهرة شعرية في العصر القديم وأخص ما قبل الإسلام، فكلما ظهر شاعر في قبيلة يتباشر الولدان ويفرح الأهل وتقام الولائم، لأن الشاعر يمثل الناطق الإعلامي باسم القبيلة أو ما يوازي وزير إعلام في عصرنا الحالي.
الشعر بشكل عفوي كان يؤدي هموم وتطلعات وأوجاع المجتمع ويأتي محملاً بالعاطفة والشجن والصدق ويرفل بالصور ويتحرك عبر النغمة الموسيقية الموحدة التي تشجي وتثير العواطف وتشعل الألباب وتدفع للحب أو للتمرد، وهذا شعر كانت تتفرد به العرب.. وكان عند العرب أيضاً فصحاء قدموا النثر على أجمل ما عليه، لكنهم سموه نثراً وخطابة كما هو الحال عند الأحنف بن قيس، وقدموا القصة بمجالات متنوعة، وهذا بعد عصر الإسلام. فالقصة القصيرة جداً جاءت على يد الجاحظ.
الآن اختلفت المعايير والتسميات وتزحلقت البنى لتسمى انزياحات، وغير ذلك من الظواهر المدهشة بغرابتها لتطالب بتهشيم الماضي نهائياً واستبداله بما هو جديد وليتبنى كثيرون هذه المسؤولية التي جعلت أكبر أمسية شعرية لا يحضرها خمسون شخصاً، وهؤلاء كما يأتون لحضور من يمتلك قدرة الجمع بين الماضي والحاضر.
الشاعر وائل أبو يزبك أنموذجاً
لعل أهم ما يميز النص الشعري هو قدرته على صناعة رابط بنيوي بين النص الشعري وبين المتلقي، الذي من المفترض أن يكون مجتمعاً بكامله، يرى نفسه بألمه وفرح ووجعه بين مكونات القصيدة التي كتبها شخص من المفترض أن يكون مختلفاً عن غيره، بما يحمله من قدرة على التعبير الحالم أو المتطلع إلى أكثر جمالاً، وأوفر حقيقة لنقرأ نص وائل أبو يزبك:
لا شيء إلا الحزن ينشر ظله
فوقي ويجمع في الضلوع شتاتي
ومطارق للذكريات حزينة
تسري وتولم للضحى عبراتي
تقتاتني الحسرات حتى خلتها
جبلت بماء جبلتي وحياتي
يخال للمجرب أن وضع القصيدة سهل التعاطي معه، ويمكن أن يكتبها أي شخص، وهذا أمر غير حقيقي، فهي بموسيقاها المنسجمة مع العاطفة والمنسابة مع الحس الشفيف الذي جاء ليكون مؤثراً ومصوراً للواقع يجعل المجرب أحياناً غير قادر على التأقلم مع كتابة مثل هذا الشعر، مما يدفعه ليجد نفسه أمام حالة أخرى، وقد لا تقل قيمة ورفعة عن الشعر الانتمائي الذي يأتي مصراً على اعترافه بأبوة الشنفرى وعنترة والمتنبي ومثلهم، والذي يأتي مفلسفاً لوضع راهن وفق تسلسل زمنى آخر.. قد يقدم ثقافة أخرى وفق سياق الاكتشاف لا سياق التطور.. فالتطور يحتاج إلى تعقيد أكبر في البنيه وبساطة أكثر في التفاهم وعذوبة في التلقي.
الشاعر أبو يزبك أيضاً في قصيدته:
حين تبصرني نخلة في الطريق
وتلمح ظلي عناقيدها الحانيات
أحنُ إلى نخلة في الفرات.
حين يهوي الأصيل قتيلاً على شرفة النهر…
والليل يعصر ثدي النخيل.. فتنشج أعذاقه الناحلات.
الواقع الانتمائي عند أبو يزبك يشير إلى أن الشاعر صمم برغم الحداثة على البقاء محافظاً على بعض البنيات التي من شأنها أن تحافظ على أهمية الصلة بين الشاعر ومن يتعاطى شعره.
في مجموعته الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب اعتنق أبو يزبك شكلين للجنس الأدبي، هما الشطرين والتفعيلة، وهما أساس دال على جاهزية الموهبة الشعرية القادرة على التحول الصحيح، بغض النظر عن المواضيع التي قد تروق لشخص ولا تهم آخر رغم سلامة النص الذي يقدمها.
التاريخ: الثلاثاء28-7-2020
رقم العدد :1007