الثورة اون لاين-هفاف ميهوب:
“من البداية.. هناك الدم والحِداد”
“خسرنا.. ليس لأننا لم نكن جديرين، وليس بسبب أخطائنا أو نقص في فطنتنا. لم نكن أكثر تعجرفاً أو جنوناً من الآخرين…)
هذا ما كتبه الأديب الفرنسي المعاصر “لوران غوديه” بعد أن تأمل في التاريخ الإنساني وما طرأ عليه من تطورات مأساوية، ما كتبه وبثّ فيه قلقه، ولاسيما في هذا الزمن الذي شظّى أحاسيسه بسبب توالي الحروب والفجائع الحياتية.
نقرأ في روايته فندرك حتى قبل أن نغوص في تفاصيلها، بأنه يدعو البشرية بأكملها للإنصات إلى هزائمها. يدعوها للدخول إلى العوالم التي تعيشها وتختنق بدخان نيرانها مثلما تصطدم بالجثث وأشلائها، تغرق في بركِ الدماء التي هدرها الإنسان على مدى الحروب التي لاينتج عنها إلا الخيبة والخسارات، وأيضاً الفشل والهزيمة التي قال عما يليها من انكسارات:
“لا يمكن أن نذهب إلى المعركة آملين العودة منها سالمين. في البداية، هناك الدم والحِداد. في البداية، هنالك اليقين بانعدام الانتصار الكلّي والسعيد..”.
تحكي الرواية عن لقاء يتم صدفة في أحد فنادق “سويسرا” ما بين عميل للاستخبارات الفرنسية، مع عالمة آثار عراقية. العميلُ قاتلٌ محترف لكنه يحاول التهرب من الأعمال الموكلة إليه لأنه غير راضٍ عنها، وعالمة الآثار تسعى لإنقاذ المعالم والقطع الأثرية المستهدفة من عنف الحرب البشعة التي شُنت على “العراق” و”سورية” وتسبّبت بانتشار مسلحين إرهابيين جهلة ومنقادين “يتقدّمون، وفي كلّ مكان يمرّون فيه، يحطّمون التماثيل وينسفون الآثار. يمحون المواقع واحداً واحداً بمطارق، بجرّافات”.
إنه ما يستحق فعلاً، أن تنصت البشرية إلى هزائمها، أن تقرأ في ذاكرة ماضيها المتجسد في صورِ حاضرها.. أن تتيقن بأن موسيقى الأزمان الجنائزية ستبقى تلعن صنّاع الموت، وتشيّع الأزمنة بصخبٍ يدمي الصمت.
هو أيضاً، ماتحتاجه لتتيقن بأن كل حروبها ماكرة، وكل انتصاراتها خاسرة، وبأنها لاتجيد سوى عزف ألحان الاحتضار، على وقع الهزيمة التي تشيعها بأكثر من انكسار.
“الانتصار يقترب والحرب تزداد قذارة، تزداد قساوة. ماعاد الرجال منذ زمن طويل يحلمون بالسمو، يعلمون بأن الحرب تُشنُّ بتجهمٍ، وبأنهم قد خسروا أنفسهم، فما طُلب منهم هو أن يقبلوا التغرّب عن أرواحهم، والذهاب إلى أقصى درجات الخسّة، وهم يفعلون ذلك.”.
هكذا تنصت البشرية إلى هزائمها، كما أنصت العميل الذي كان يشعر بأنه يخسر إنسانيته تدريجياً مع كل مهمة من المهمات التي توكل إليه. أيضاً، عالمة الآثار التي فشلت في استعادة القطع الأثرية المسروقة، وفي ترميم مادمرته “داعش” من الآثار العريقة.
حتماً، هي الهزائم ذاتها التي يعيشها الإنسان، وحولت ساحات المعارك إلى فضاءاتٍ يهيمن عليها الموت ورائحة البارود وسحب الدخان.. هزائمٌ، وإن قادته إلى المزيد من الفشل والسقوط والجنون والعدمية، إلا أنه لا يتوقف عن خوضها وصولاً إلى خساراتٍ تتفاقم ولا يوقفها إلا الحب والتسامح والحكمة الإنسانية.
“كل ما يترسب في داخلنا عاماً تلو عام، دون دراية منا.. من وجوه ظنناها منسية، من أحاسيس، من أفكارٍ كنا على يقين بأننا رسخناها في وجه الزمن، فلا تلبث أن تختفي وتعود لاحقاً ثم تختفي مجدداً، إشارة إلى أن ثمة وراء الوعي شيئاً يعيش في أعماقنا يُفلت من فهمنا إلا أنه يغيرنا.. كل ما يتحرك في تلك الأعماق، يتقدم بغموض، على نحوٍ سري، إلى أن يطفو ذات يوم ويصيبنا بما يشبه الهلع، لأنه سيتّضح جلياً بأن زمناً قد مرّ عليه، ولا نعرف إذا ما كان في وسعنا التعايش مع كل هذه الكلمات”.