كثيراً ما يتمكّنُ محاورون أذكياء، يلتقونَ كُتّاباً كباراً، من جعل أولئكَ الكتاب يبوحونَ بأجملِ ما لديهم من أسرار العمل الفني، وآلياتِ الكتابة، ومشاكلها وهمومِها، ونجاحاتها، ودقائِقها الخفيّة، وما إلى ذلك. وهو ما استطاعَ أن يفعلَهُ مثلاً جورج بلمبتون في حوارٍ قديمٍ مع إرنست همنغواي ترجمهُ عن الإنكليزيّة د. نايف الياسين. طَرَحَ الروائي الكبير، صاحب “الشيخ والبحر”، و “لمن تُقرع الأجراس” الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1954 أفكاراً كثيرة في ذلك اللقاء منها، إجابته عن سؤال: “من هم أسلافك الأدبيّون – أولئكَ الذينَ تعلمتَ منهم أكثر من غيرهم”، أجابَ همنغواي: “مارك توين فلوبير، ستندال، باخ، تورغينيف، تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف، أندرو مارفل، جون دَن، موباسان، كيبلنغ، ثورو، شكسبير، موزارت، كويفيدو، دانتي، فيرجيل، تينتوريتو، غويا، غيوتو، سيزان، فان غوخ، غوغان،… أحتاجُ إلى يومٍ كاملٍ لتذكّرهم جميعاً. ثمّ إن ذلك سيبدو وكأنني أتظاهر بامتلاكِ معرفة لا أمتلكها فعلاً… إلخ” واللافتُ أن همنغواي ذكرَ فنانين تشكيليين مهمّين وموسيقيين كباراً، تعلّمَ منهم في مجالِ الكتابةِ ليس أقل مما تعلّم من كبار الكتّاب الذين ذكرهم…
وكل ذلكَ يطرحُ سؤالاً مهمّاً على كثيرٍ ممّن يقتحمونَ عالمَ الكتابةِ في بلادنا: “هل قَرؤوا لأسلافهم ومعاصريهم جيّداً، هل شاهدوا أعمالاً فنيّة تشكيليّة عظيمة، واستمعوا إلى موسيقيين رائعين قبل أن يبدؤوا عمليّة الكتابة المضنية، التي ليست نزهةً بالتأكيد؟ أم اكتفوا بما يسمونَهُ: “الموهبة!”. وحين يسألُهُ المحاور: “هل الاستقرار العاطفي ضروري للتمكّن من الكتابة بشكل جيّد؟ أخبرتني مَرّةً بأنّكَ تكتب بشكلٍ جيد فقط عندما تكون في حالة حب”.
يجيبُهُ همنغواي: “يا لهُ من سؤال. لكنّي أعطيكَ علامة تامة على المحاولة. يمكنكَ أن تكتب في أيّ وقت يترككَ فيه الناس وشأنك، ولا يقاطعونك. أو بالأحرى إذا كنتَ صارماً بشكلٍ كافٍ. إلّا أنّ أفضل الكتابة هي عندما تكون في حالة حب. أمّا إذا كان الأمر سيان بالنسبة لك، فالأفضل ألّا أتوسع في شرح ذلك”.
وهنا يسألُ بلمبتون: “ماذا عن الاستقرار المالي؟ هل يمكن أن يشكّل ذلك عائِقاً للكتابةِ الجيّدة”.
ويجيبُ همنغواي: “إذا أتاكَ النجاح المادي في وقتٍ مُبكّر، وكُنتَ تُحبّ الحياة بقدر ما تحب عملك، فإن ذلك يتطلّب شخصيّة قويّة جداً لمقاومة الإغراءات، أمّا عندما تصبحُ الكتابةُ هي رذيلتُكَ الأساسيّة ومتعتك الأعظم، فإن الموت وحده يمكن أن يوقفها. عندها يُصبح الاستقرار المادي عاملاً مُساعِداً، إذ يحميكَ من أخطار القلق. القلق يدمّر القدرة على الكتابة. اعتلال الصحّة سيِّئ بمقدار ما يسبب القلق الذي يهاجم شعورك، ويدمّر مُدخراتك”. ويسألُ المحاور: “هل يمكن أن تتعلّم شيئاً عن الكتابة من الكتّاب؟ قلت لي أمس إن جويس مثلاً لم يكن يطيق التحدّث عن الكتابة”، فيجيبُ الروائي: “في صحبةِ أشخاص يحترفونَ حِرفَتك تتحدّثُ في العادة عن كتب كُتّاب آخرين. كلّما كان الكتاب أفضل أحجموا عن التحدّث عَمّا كتبوه هم أنفسهم. كان جويس كاتباً عظيماً جداً، وما كانَ ليشرح ما يفعله إلا للمغفلين. كان يفترض بالكتّاب الآخرين الذين يحترمهم أن يعرفوا ما كان يفعله بقراءة كُتبه”.
وفي إجابتِهِ عن سؤال: “كم مَرّة تعيد الكتابة؟” يُفاجئنا هذا الرجلُ المبدع بقولِه: “ذلك يعتمد… كتبتُ نهاية (وداعاً للسلاح)، الصفحة الأخيرة منها تسعاً وثلاثينَ مَرّة قبلَ أن أشعر بالرضى…”
والحقيقة أن الحوار طويل وممتع ولا يمكن اختصارُهُ في زاوية صغيرة؛ هناك يُحدِّثنا مطوّلاً كيفَ كتبَ ثلاث قصص قصيرة في يومٍ واحدٍ هي: “اليوم هو الجمعة”، و “عشرة هنودٍ”، و”القتلة”، ونسي تناول الطعام… وكيف فشِلَ أحياناً في البدء بكتابة قصة واحدة في يوم كامل… يحدثنا عن فشلِهِ في العزف على آلةٍ موسيقيّة، وعن شخصياتِهِ واختيارها… وغير ذلك ما يدعوني إلى دعوتكم أيّها الأعزاء إلى قراءة هذا الحوار وسواه ممّا ضمّه كتاب “مُتعة المتخيّل”.
إضاءات- د. ثائر زين الدين