تدفع الولايات المتحدة بكل ثقلها نحو تكريس حالة الفوضى الدولية الحاصلة على أكثر من صعيد، هي ترى في ذلك مخرجاً لأزماتها الداخلية والخارجية، وسبيلاً لتثبيت نفوذها وهيمنتها العالمية التي بدأت تضعف بالتدريج، ويبقى أحد أهم أهداف إدارتها الحالية في هذه المرحلة تهيئة المناخ المناسب لفرض الكيان الصهيوني كجزء رئيسي من خارطة المنطقة، جغرافياً وسياسياً، وهي تحتاج لذلك من أجل كسب معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، والبناء عليها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الكبرى على مستوى العالم.
سورية هي الأكثر استهدافاً بكرة الإرهاب والفوضى الأميركية اليوم، لأنها آخر القلاع العربية الحصينة بمواجهة المشاريع الصهيو-أميركية، واستهدافها المتواصل بهذه العدائية المفرطة غير المسبوقة في التاريخ، ربما يكون لترهيب من يفكر بأن يحذو حذوها المقاوم، وهذا في صلب الاستراتيجية الأميركية الرامية لفرض قواعد المرحلة القادمة المتمثلة بالتطبيع المجاني في سياق العمل على تكريس وجود الكيان الغاصب في المنطقة، والاعتداءات الصهيونية المتواصلة لا تخرج عن إطار إبقاء سورية في دوامة العنف والفوضى، لأن حكام العدو يعيشون هواجس خطر استراتيجي على مصير كيانهم بحال إنجاز سورية نصرها النهائي على الإرهاب، الأمر الذي يتعارض أيضاً مع الرغبة الأميركية في تثبيت نفوذها في المنطقة.
العربدة الإسرائيلية المتواصلة تؤكد مجدداً الترابط العضوي بين الأهداف الصهيونية والأميركية، والتي ترمي في هذه المرحلة لتعبيد الطريق أمام مسألة التطبيع، وهذا يتضح من خلال الوتيرة المتسارعة للإجراءات التنفيذية على الأرض، وهذه المسألة بجوهرها هدف تكتيكي وليس استراتيجيا، تطويق دول المنطقة برمتها عسكرياً وأمنياً واقتصادياً هو الهدف الأبرز من وراء عملية التطبيع، وغايته استهداف المحور المقاوم ومحاصرته، وعرابو “صفقة القرن” الأميركيون يجددون تأكيدهم، والتزامهم الدائم بأن يكون الكيان الصهيوني صاحب “القوة” المطلقة في المنطقة، ويصورون إيران على أنها “العدو” الذي يهدد أمنها، ويدفعون نحو تشكيل تحالف ضدها بزعامة إسرائيلية، وعنوان التطبيع يلبي هذا الغرض، خاصة أن التطبيع بمراحله السرية السابقة دفع بالمهرولين لمساندة الكيان الصهيوني عند كل اعتداء يشنه على شعوب المنطقة، سواء في سورية أم لبنان أم غزة، في حين أن الحديث عن تحقيق “السلام” المزعوم من وراء التطبيع مجرد واجهة تجميلية لا أكثر ولا أقل، وتجاهل الحقوق الفلسطينية التاريخية يؤكد ذلك.
إدارة ترامب تعمم الفوضى في كل مكان، لتحشر أنفها فيما بعد لإعادة ترتيب فوضاها تلك بما يتوافق مع حساباتها الانتخابية أولاً، والمصالح الأميركية الاستراتيجية ثانياً، هي تسخن أجواء الحرب الباردة مع الصين لإقصائها عن ميدان المنافسة التجارية العالمية، وتستفز روسيا عسكرياً وسياسياً عبر “الناتو” لتبقى في صدارة سباق التسلح، وتدفع النظام التركي لتصعيد التوتر في شرق المتوسط لابتزاز حلفائها الأوروبيين لاحقاً، وتفرط باستخدام سياسة العقوبات لإخضاع الدول المناهضة لسياساتها، وتنسحب من كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية لإعادة صياغتها وفق قوانين شريعة الغاب التي تنتهجها، حتى أنها لا تستثني الشعب الأميركي نفسه من إرهابها وعنصريتها المستشرية، ولا تجد وسيلة لانتشال نفسها من مأزقها السياسي والانتخابي سوى استخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات المتصاعدة، وكل ما سبق يشير إلى حالة تخبط غير مسبوقة لإدارة مأزومة، تصارع من أجل تمديد عمرها السياسي.
نبض الحدث- ناصر منذر