ما يكتسحنا من تحولات، وتبدلات حارقة في عالمنا العربي كدنا نُضيع معها ذاكرتنا الفردية، والجمعية، وإرثنا الحضاري.. أصبح من الواجب علينا إعادة إحياء تراثنا القريب قبل البعيد، وأسماء مبدعينا فيه تتألق في كل المجالات الحياتية منها، والعلمية، والفنية، والفكرية، والسياسية، وغيرها.. وكذلك الحال إذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء في الزمن مع فلكلورنا الذاخر بكل ما يعبر عن هويتنا الوطنية، وتقاليدنا الشعبية.
وإذا ما استعرضنا لائحة أسماء المبدعين في الوطن العربي مع الأخذ بعين الاعتبار بأن كل واحد منهم هو متفرد بحد ذاته، ولا يشبه أحداً بمقدار ما يشبه نفسه لاعتبرنا أن كل مبدع عربي إنما هو للعرب جميعاً، وليس فقط إلى البلد الذي ينتمي إليه.
وكم من المبدعين عاشوا في غير بلدانهم الأصلية حتى أصبحت تلك البلدان وطناً ثانياً لهم، ينتمون إليه بالقدر الذي يتحقق معه انتماؤهم لوطنهم الأصلي، والشواهد كثيرة، بل أكثر من أن تحصى.. ألم يعش الشاعر العراقي الكبير (محمد مهدي الجواهري) في دمشق حتى تداخلت أشجار غوطتها مع نخيل العراق السامق لتصبح الأرض واحدة، فيبدع الشاعر أجمل ما كتب من شعره؟.. والشاعر الدمشقي (نزار قباني) الذي غدا مدرسة شعرية تأثر بها الشعراء في الوطن العربي، ألم يعش في بيروت التي أصبحت في قصائده عروس المدائن، وأميرة العواصم؟..
وكذلك شعراء المهجر وأدبائه الذين هاجروا قبل قرن، أو أكثر إلى الأميركتين كجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وآخرون، ليؤثروا في الأدب العالمي ويتركوا فيه بصماتٍ لا تزول.. وحالهم كحال (ألبير كامو) الكاتب، والفيلسوف الوجودي الذي وُلد، وعاش في الجزائر ليصبح جزائرياً قبل أن يكون فرنسياً.. وغيرهم كثر من أهل الفكر، والقلم، والعلم، والسياسة الذين استوطنوا في بلاد أحبوها حتى الرمق الأخير، ليواروا في ثراها، وبعيداً عن حيث ولدوا، ونبتوا.
وها نحن إذ نعود إلى هذه الأسماء، وغيرها من الشخصيات المهمة، والمؤثرة في كل المجالات فإنما نتذكر معها آثاراً أدبية، أو فنية، أو فكرية، أو علمية، خالدة لا تقل في أهميتها عن الأوابد الحجرية التي تفتخر بها البلاد لتكون إخباراً عنها في الحضارة، والأصالة، ومقصداً جاذباً للسياحة.. لكن أماكن أخرى هي ربما بالأهمية ذاتها، ألا وهي تلك المنازل التي عاش فيها المبدعون إذ تتحول إلى متاحف صغيرة تحتوي على مقتنياتهم، وآثارهم، وإرثهم المادي، وهي مفتوحة للجمهور، ولكل من يرغب أن يعيش لحظاتٍ في أجواء مَنْ أبدعوا، وقدّموا للبشرية إرثاً لا يأكله الزمن، ولا يهترئ، وإنما يظل يشهد أنهم مروا من هنا.. فتأثروا بالمكان، وأثّروا بالتالي بمن فيه.. فبيت (سيرفانتس) مثلاً في إسبانيا، وبيت (شكسبير) في انكلترا، و(نهرو) في الهند، وغيرهم، كلها بيوت تحولت إلى مزارات سياحية يقصدها الناس من كل أنحاء الدنيا.
ونحن نُطلق أسماء هؤلاء على شوارع، ومدارس، ومراكز مختلفة، ونُصدر الطوابع البريدية، والتذكارية التي تحمل صورهم، وأسماءهم تكريماً لهم، وتخليداً لذكراهم، وكل هذا مما يجعلهم أحياء بيننا.. لكن مبادرة جديدة، وحضارية في هذا الإطار ظهرت في مصر تحت مسمى (عاش هنا) في احتفاءٍ بالمبدعين، والأشخاص المؤثِّرين، تختصر حياة ثرية بعبارات تعريف مختصرة، وعنواناً لموقع إلكتروني يحتوي على ما يلزم من التعريف، تندرج تحت اسم الشخصية المؤثرة، لتحملها لوحة معدنية صغيرة تستقر على باب ذلك المنزل الذي عاشت فيه تلك الشخصية.. إذ لا يكفي أن يعرف معاصروها أنها كانت تعيش هنا، بل إن تلك اللوحة الصغيرة المثبتة فوق الجدار هي لافتة كفيلة بأن تخلّد تلك الأسماء، وتخبر مَنْ عاصر، ومَنْ لم يعاصر، ومَنْ سيأتي من بعد من الأجيال أن صاحب ذلك التاريخ الغني قد عاش هنا، وأبدع في هذا المكان.. في خطوة نحو الحفاظ على الذاكرة الوطنية.. والتأكيد على ضرورة حضور النموذج القدوة.
فمن بعد ذلك يستطيع محو تلك الأسماء من الذاكرة الفردية، والمجتمعية، مادامت تُحفر على جدران المكان لتحفظها ذاكرة الوجدان.
إضاءات ـ لينـــــــا كيـــــــلاني