ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم :
لا تتوقف المسألة على يوم القدس العالمي، كي تعود الأضواء إلى الزوايا التي ابتعدت عنها بحسن نية – وهي مستبعدة – أو بسوء نية واضحة في تعمدها، بقدر ما تعكس رغبة متزايدة ونزوعاً جلياً
بالعودة إلى الجذور التي تمتد من أول وجدان سياسي قومي، ولا تنتهي على أطراف التداعيات التي تتحرك في جهات الأرض الأربع.
وفي السياق ذاته، لا تخلو أي مقاربة من عملية مقارنة تقتضيها التطورات، كما تمليها الظروف والمستجدات على ساحة تموج بتناقضات وتتصارع وسط تلاطم بين أمواج متعاكسة وبعضها أو كلها يحاول أن يلغي جزءاً من ثوابت القضية المعمول بها على مدى عقود، وعجزت خلالها كل الرياح العاتية عن تغيير اتجاهها، في حين فشلت سياسة القضم بالتدريج عن تعديل المساحة التي تحتلها في الوجدان الشعبي.
اليوم، معادلة القدس تقلب العلاقة بين طرفيها، وتصبح المجاهيل الممتدة في سياقها هي غير تلك التي تتشكل في نهاياتها، على قاعدة أن عوامل الارتباط رغم تشابهها فإنها تعيد رسم الخارطة من جديد على وقع مؤشرات وعي ذاتي وموضوعي، وبوادر نهوض تتشكل في أكثر من موقع في موجة مدّ معاكسة للمناخ الذي استولد بطبيعته مشاهد النكوص بالفكر القومي.
وكان من الطبيعي آنذاك أن تكون الحالة الفلسطينية بثوابتها وجزئياتها موضع استهداف، بل شكلت في نهاية الدائرة المغلقة بالانفعالات الآنية الهدف الذي يراد له أن يكون خاتمة الحراك السياسي، وموطئ قدم للفوضى المتعمدة في الوضع العربي برمته، حيث تتلاشى الاختلافات، وبدا الدور القطري «المؤتمن» على تهويد آخر ما تبقى من القضية واضحاً صريحاً في صك التنازل الذي قدمه حمد البائد برفقة الأمين العام لجامعة الدول العربية وبعض وزراء الغفلة العرب، وسرعان ما استبدلته الإدارة الأميركية بعد أن أنهى كل ما هو مطلوب منه.
وبعده جاء الدور السعودي الذي يترأس مجموعة الضغط الجديدة، للتفريط بما لا يستطيع الفلسطيني فعله، بل من غير المسموح له ذلك في مفاوضات واشنطن، حيث تريد الإدارة الأميركية أن تنهي خلال بضعة أشهر ما عجزت عنه في سنوات، بل عبر عقود طويلة، إذ بدت المهمة السعودية بديلاً بعد تنحية وجوهها القطرية من الحلبة السياسية، وباشرت فوراً في تولي مهمة دعم الإرهاب الدولي الذي كان شرطه الأساسي المتلازم معه أن تمارس حضورها وتأثيرها لتمرير ما تنازلت عنه قطر باسم الأعراب حيث هضمه يحتاج إلى «عمالة» بحجم آل سعود.
اليوم يتسع الفارق في طرح المسألة، حيث إن القدس ليست فقط مدرجة على أجندة التهويد، ولا هي موضع استهداف مباشر وغير مباشر، بل باتت في مرمى النيران المستعرة في جبهات العرب المفتوحة، حيث يراد لها أن تكون مجرد زاوية مهملة خارج أضواء الاهتمام السياسي والإعلامي، فيما تمارس الإدارة الأميركية بالتوازي تسخين الجبهات وتبريدها وفق الحالة التي تتطلبها، بحيث تشغل المنطقة لبعض الوقت في كل القضايا العالقة تمهيداً للتصفية النهائية المنتظرة.
وهذا يتقاطع مع الظواهر الطافية على سطح السلوك الأميركي تجاه تلك القضايا المشتعلة، حيث تريد أن تسلح الإرهابيين في سورية، ثم تماطل في الوعود.. تنتقد ما يجري في مصر، في حين تتواصل مع أحداثها خارج الأضواء وداخلها وتقدم رسائل متناقضة، وتتعامل ببرود مع الاتهامات الموجهة تارة، وبعصبية منقطعة النظير ممزوجة بالتهديد والوعيد لأي انتقاد يُوجّه تارة أخرى.
الموقف من تهويد القدس يُسقط آخر أوراق التوت عن الأميركي، كما اسقطها عن السعودي، وقبله القطري، وبينهما ومعهما ينكشف الإخواني ومشروعه التدميري الخياني للمنطقة والقضية، مثلما عرّى الأحداث في البلدان العربية من أولها حتى آخرها، فالإسرائيلي الذي لم يتجرأ على طرحها إلا تحت سيل من المداورة في السياسة والمفاوضات، يجد نفسه أمام مقاربة أميركية تتقدم عليه كثيراً، وتقدم له ما لم ينتظره يوماً من أكثر الإدارات الأميركية ممالأة لإسرائيل.
لكن عودة القدس إلى الأضواء ليست فقط بدافع يومها العالمي على أهميته النفسية والمعنوية، بل بالخفايا التي تتكشّف، والأبعاد التي تعيد ترتيب أفكارها وموقعها داخل هذه المتاهة التي تشكلت في المنطقة، لأن عودة الايقاع إلى موضعه الصحيح في يوم القدس لا يقتصر في دلالته على أنه يستعيد روح النبض فحسب، بل أيضاً اعترافاً واقعياً بإعادة ترتيب الاصطفاف داخل الامة ومعها محور المقاومة ، حيث الفلسطيني المقاوم يحضر بذاته، لا بوكلاء الغير، وبوجهه الحقيقي الذي لم يغير من اتجاهه يوماً، ولا من موقع بندقيته ولم ينقلها من كتف إلى كتف.
لذلك للقدس عنوانان: الأول عودتها إلى مكانها الطبيعي في الوجدان الجمعي العربي والإسلامي، والثاني: إعادة المقاومة إلى المبادرة باتجاه تعديل العلاقة بين طرفي المعادلة القائمة وتصويب البوصلة باتجاه القدس والطريق إليها بعد أن غربت الاعراب وشرقت وواربت بعيداً عنها، حيث تعود المقاومة ومعها الفصائل الفلسطينية لتأخذ دورها وموقعها، في سياق جردة الحساب الكبرى التي تبقي القدس كما كانت عنواناً يجمع الأمة ويوحد كلمة المقاومة فيها، ويفرز ما علق فيها من زوائد مرضية، بادرت بنفسها إلى الاصطفاف خارج المقاومة، مفضلة موقعها داخل مشروع الآخر ونسيجه الإخواني وهيكليته العالمية.
a.ka667@yahoo.com