يقوم العمل الإبداعي عادة – والفن التشكيلي أحد أوجهه – على ركائز ثلاث: المبدع، والناقد، والمتلقي. والثاني بينهما يقوم عادة بدور الوسيط بين الاثنين الباقيين، وأيضاً بدور المؤرخ والموثق، وحتى الموجه (في حالات نادرة). وحين يعرض الفنان عمله للجمهور ينتهي عمل الفنان ويبدأ عمل الناقد، لكن هذا في كل الأحوال لا يعني أن الناقد يفوق الفنان أهمية بل العكس هو الصحيح. وعلى حد تعبير الناقد صلاح الدين محمد في حوار قديم مع الصحفي عمار الكسان: « إن الناقد الجيد لا يرقى إلى مستوى الفنان الجيد، والناقد السيىء، يأتي في مرتبة أقل من الفنان السيىء».
في دراسة له تعود إلى أواخر السبعينيات، عن الفن التشكيلي المعاصر في سورية ومراحل تطوره، يقول الناقد طارق الشريف: «تبدلت صيغة الفن بالواقع، وأخذت صيغة جديدة تبعاً لظهور طبقة من المتذوقين والمثقفين الذين كانوا يفضلون جمال الموضوع المرسوم، وحسن تناسق ألوانه وتناغمها، ويقدسون الطبيعة، ويفضلون المشاهد المحلية المرسومة والتي لا يعرفونها، وعبر هؤلاء المتذوقون عن هذا الإعجاب بالنقد الفني الذي ظهر على يد الأدباء، والكتاب، والصحفيين، الذين اهتموا بالمعارض، وبدؤوا يكتبون انطباعاتهم، التي كانت تمثل بداية وجود فئة من المتذوقين، توصل الفن للناس عبر الكلمة المكتوبة».
من المؤكد أن اهتمام الأدباء بالفن التشكيلي، قدم له خدمة لا تقدر بقيمة. فقد أوجد جسور الاتصال الأولى بين اللوحة والجمهور الذي لم يكن قد ألِفَها بعد، لكن في الوقت ذاته فرض بعض الأدباء على اللوحة رؤية أحادية الجانب، تعني فقط بموضوعها وجمالها، دون الالتفات إلى جوانبها التشكيلية والتقنية. وساعد في هذا ميل معظم الفنانين في تلك المرحلة إلى الأساليب الواقعية والانطباعية. ومع ظهور التيارات الحديثة تباينت مواقف كتّاب الفن التشكيلي حيالها، واتخذت الكتابات حول التجارب الحديثة اتجاهات عدة، منها ما أكد على مضمون العمل الفني، وأحياناً مضمونه السياسي، وقبول العمل الفني أو رفضه على هذا الأساس، ومنها ما سعى لكتابة نص أدبي موازٍ للعمل الفني الإبداعي. وكانت النتيجة ظهور فئة من الكتّاب الذين استسهلوا الكتابة في الفن التشكيلي، نظراً لسهولة الشروط السابقة بالنسبة لهم، وصار كثير من الكتابات التي تنشر باسم النقد الفني أكثر ابتعاداً عن المتلقي، ووصل بعضها إلى مرحلة العجز الكامل عن خلق أي تفاعل مع جمهور القراء، بحكم التعالي على هذا الجمهور، والميل لاستعراض الإمكانيات الأدبية، واستخدام مفردات وتعابير جاهزة لا تعني شيئاً، حتى بالنسبة لقائلها، ومن ثم إطلاق الأحكام القاطعة التي لا تحمل مبرراتها والتي تسقط في مجرى كيل المديح أو الشتيمة للفنان ودون سبب في الحالتين.
مقابل تلك الاتجاهات، التي ما زالت أشكالها مستمرة حتى الآن بصيغ مختلفة، ظهرت اتجاهات نقدية تقيس العمل الفني بقيمته التشكيلية قبل أي شيء آخر. وظهرت على امتداد الزمن أسماء كثيرة من الوسط التشكيلي، أو من الوسط الثقافي العارف به، استطاعت عبر جهد شخصي ومتابعة أن تقدم بديلاً عما سبق يعتمد أسلوب التحليل القائم على المعرفة، والتوجه نحو الفنان والقارئ المختص والقارئ العادي، وتقديم المعلومة المفيدة والضرورية في ظل غياب الثقافة الفنية العامة. وهذا الواقع يجعل الكتابات الفنية عندنا تنوس بين الساعية لتقديم المعلومات الأولى لجمهور لا يعرفها، إلى المعنية بمخاطبة نخبة ثقافية تمتلك معرفة فنية عالية وحساً جمالياً متقدماً. غير أن حجم المغالطات التي تمتلئ بها كثير من الكتابات حول الفن التشكيلي قد تعطي بعض المبررات لمن يتحدثون عن غياب النقد، لكن النقد يغيب عن تلك الكتابات فقط،التي تجد الوصف أسهل من التحليل والمتابعة، وتجد من الأسهل أيضاً محاسبة الفنان عما لم يفعله بدلاً من مناقشة ما قدمه، ومن الأسهل ثالثاً، الاتقاء وراء الشعارات والتعابير الجاهزة، بدلاً من إجهاد النفس في البحث عن لغة حقيقية قادرة على مخاطبة المتلقي. النقد يغيب عن تلك الكتابات فقط ولا يغيب عن كل ما نُشر، وينشر، حول الفن التشكيلي والتمييز بين الاثنين مسؤولية الفنان قبل أي آخر.
إن وجود العلاقة الموضوعية الضرورية بين الفنان والناقد يصبح أكثر صعوبة في ظل حالة تسويقية نشطة، لأن الكتابات النقدية وهذه الحالة لم تعد ترتبط بالنشاط الثقافي وحسب، وإنما صارت وثيقة الصلة بنشاط اقتصادي أيضاً يتوقف عليه الكثير بالنسبة للفنان، ولصاحب الصالة، ولتاجر اللوحات بآن واحد. ولهذا يميل كثيرون من الفنانين – بمن منهم أولئك الذين يندبون غياب النقد- إلى الحوارات السريعة ولو كانت سطحية، وإلى الكتابات التي تمتدح أعمالهم بلغة شاعرية أدبية ولو لم تقدم بالمقابل أي شيء مفيد على المستوى الثقافي النقدي لهم أو للقارئ. وأمام كثرة من يعرض ويريد أن يسوق أعماله سريعاً، وكثرة من يكتب في الفن التشكيلي لأسباب مختلفة تنقلب المعادلة أحياناً. وبدلاً من أن يروّج النقاد للفنانين، يروّج بعض الفنانين لبعض كتّاب الفن التشكيلي، وتحديداً أولئك الذين لم يمتلكوا فرصة التحول إلى نقاد. وهم على استعداد في كل وقت للتهليل لتجارب فنية لا يعرفون عنها، ولا عن غيرها شيئاً.
إن الأكثر أهمية من الحديث البكائي عن غياب النقد، هو التمييز بين ما يكتب تحت اسم النقد، والسعي لتجذير ما هو حقيقي وموضوعي منه. وهذه ليست مسؤولية النقاد وحدهم.
إضاءات- سعد القاسم