افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله:
يُتابع العالم مُستويات الانحطاط في الخطاب الذي يَستخدمه المُتنافسان على الرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، جو بايدن: شتائم واتهامات وطعن بالممارسات والأخلاق والأهليّة، ثم بعد كل هذا تَنتهي المسرحية الديمقراطية لتَسمية أحدهما رئيساً، أو مُديراً تنفيذياً لمجموعة الشركات واللوبيات التي تَحكم وتتحكم وتَبتز العالم.
يَرضى الأميركيون بذلك، ويَتقبل العالم مسألة بَذلِ الجهد لهَضم المَهزلة قبل أن يَخضع ويَنصاع، وليَمتنع كُلياً عن التفكير – مُجرد التفكير – بالتعبير عن الاستهجان لا الرفض والتمرد، بل إنّ أغلبية دول العالم لا سيما تلك التي تَدعي الديمقراطية تَستعجل إعلان اصطفافها خلف واشنطن ومديرها التنفيذي الجديد، فضلاً عن إعلان الشراكة معها في سياساتها التي لا تَخدم مصالح تلك الدول بل تَتضارب معها وتضر بها وبقضاياها الوطنية؟!
على بُعد مسافة زمنية قصيرة جداً من كذبة الانتخابات الرئاسية الأميركية، يُتابع كثيرون باهتمام المُناظرات واستطلاعات الرأي، فيما يُراهن آخرون على تَغيير يَحمله هذا في ولايته الثانية أو ذاك بوصوله إلى البيت الأبيض، رغم مَعرفتهم أنّ شيئاً من هذا لن يَحصل إلا باتجاه الأسوأ، فهل يَنتظر العالم الأسوأ؟ ولماذا يَستسلم للأمر الواقع الأميركي ولا يُحرك ساكناً؟
لماذا يُبدي العالم هذه المَقادير من الاستسلام والخضوع للبلطجة الأميركية؟ لماذا تُعلن حكومات العالم – في الغرب وسواه – استقالتها وامتناعها عن القيام بأيّ فعل مُؤثر من شأنه أن يَضع حداً للبلطجة الأميركية، وأن يَحمي مصالحها الوطنية أو بالحد الأدنى يَحفظ كرامتها والسيادة؟
إذا كان مَنطق القوّة والتفرد أصبح سائداً، وإذا كانت مَسلكية البلطجة والنهب قد سيطرت، وتتطلع الولايات المتحدة إلى ما هو أبعد وأعمق منهما لتَكتمل فضائح الاستبداد تَثبيتاً لواقع أن أميركا هي الدولة المارقة المُتغطرسة الراعية للإرهاب، التي تَدوس القوانين وتَتجاوز القيم تَشويهاً وتَمزيقاً، فإنّ فضيحة الأطراف الدولية الخاضعة المُستسلمة أعظم، ذلك أنّ نَأيها ونفاقها واستقالة حكوماتها عن تَحمل مسؤولياتها بالتنصل والخضوع وبإعلان الشراكة والتبعية لأميركا، فضيحة من نوع آخر تُلحق العار بهذه الأطراف، وبالنظام الدولي العاجز التابع المُستسلم.
يَفقد الغرب في هذه الأثناء كل ما يَدعيه من مَخزون حضاري يُباهي به، ما لم يُترجمه في السياسة والمُمارسة مسافة فاصلة عن أميركا ككيان عدواني مُتمرد يُمارس كل أشكال الإرهاب ضد الغرب والشرق. ويَفقد الشرق خصائصه وسحره، ما لم يَستخلص سريعاً العبر من تجارب الاقتراب من أميركا والغرب سواء في مُقاربة مسألة الصراع أم في جُزئية التفاعل والإفادة المُتبادلة العلمية والحضارية، ذلك على تَعدد العناوين التي جَعلته يَقع أسيراً لوهم حضاري اسمه الغرب، الذي وضعَ يده الثقيلة عليه، أَفقده هويته وجَعله مُستسلماً خاضعاً غارقاً في التيه والضياع.
رصاصاتُ القتل التي تُوجهها الولايات المتحدة للنظام الدولي وشرعته ومبادئه وقوانينه لم تتوقف، بل تُضاعفها إدارة صاعدة بعدة أمثال عن سابقتها النازلة، الأمثلة قائمة مَلموسة غير خافية، وإلا فلماذا لا يُحاول أحدٌ بهذا العالم أن يُقدم رؤيته وفهمه المُختلف لانسحاب واشنطن من اتفاقيات دولية يومَ جَرى التوصل لها اعتُبرَت إنجازاً عظيماً بنظر جميع الأطراف؟ “المحكمة الجنائية الدولية مثال، مجلس حقوق الإنسان أنموذج، التجارة الحرة والاتفاق النووي الإيراني والشراكة عبر المحيط الهادئ” وغيرها وسواها من معاهدت واتفاقيات، لا يَعني نَقضها إلا محاولة تَهشيم النظام العالمي ودَفعه نحو الانهيار لفَرض سياسات الأمر الواقع الأميركي بكل ما فيها من خبث واستهانة واستخفاف بالآخر الذي هو أغلبية بمُقابل تَفردها واستفرادها.
استقالةُ الكثيرين بالتنصل من المسؤولية، وهروب كثيرين آخرين من ساحة المُواجهة مع أميركا المارقة المُدمرة لكل نَبيل وقَيِّم، هو تَعبير عن الجُبن والخوف، هو ما قد يُخفف على واشنطن المَخاطر ويَمنحها فرصة إضافية لفرض إرادتها، ذلك أن المُستقيلين المُتنصلين لا يَتخلفون فقط عن المُواجهة بل يَلتحقون بالمارق المُتمرد، هو الأمر الذي يَجعل فضيحتهم مُزدوجة، ويُحملهم مَسؤوليات أخرى لا بد يَتقاسمون من خلالها العار والفضيحة مُناصفة مع أميركا .. الأيام بَيننا.
صحيحٌ أنّ التحاق الجُبناء المُتصهينين بأميركا يُعقد المَشهد ويَجعل المُواجهة شاقة وأكثر صعوبة، مَخاطرها تتعاظم مع ازدياد عدد المُنبطحين، إلا أنّ ذلك لا يَعني أنّ المُواجهة صارت خاسرة أو لا جدوى منها، بل إن ذلك يَمنحها مَشروعية على مَشروعيتها، ستَستمر، وستُجدي، دَليلُنا في ذلك أننا في سورية ومَن مَعنا من الحلفاء والأصدقاء نُحدثُ الفَرق، سنُعمقه، ويَوماً بعد آخر سنُثبت للعالم، للتاريخ، أنّ إرادة الصمود والثَّبات على المبدأ هي الخيار الذي يَكتنز معاني الشرف والكرامة، والذي يَصون الأوطان والسيادة، والذي يُؤسس لبناء نظام أكثر عدالة يُعيد الفَرز ويَحجز المَكانة التي تَليق بمُكوناته، الأصيلة منها، والمُتلونة.