غالباً ما يرغب الأهل أن يكون لأبنائهم اختصاصهم العلمي، أو عملهم التجاري ذاته في مهنة المستقبل.. ولعل هذا مطلب محق مادام الأبناء يوافقون، وبما سيقدمون عليه مقتنعون، فخبرة الآباء في مجالهم لا يُستهان بها.. وبالمقابل فهناك مَنْ هم عكس ذلك عندما لا يريد الآباء، أو الأمهات أن يسير الأبناء على خطاهم، خاصة إذا ما كانت مهنهم تتطلب جهوداً إضافية، أو كانت من النوع الصعب، ولو أراد الأبناء ذلك.. كحال تلك الابنة الجميلة التي تفوقت في مراحل الدراسة حتى وصلت إلى الجامعية منها.. وهي بأبيها الطبيب الناجح معجبة.. في تأكيد للمثل السائد من إعجاب البنات بآبائهم.. والأب لا ينصح ابنته أن تصبح طبيبة مثله، بل يتمنى أن تختار لها فرعاً من فروع العلوم الحديثة، إلا أنها تزداد إصراراً على موقفها، ذلك لأن النموذج المؤثّر في المجتمع ماثل أمامها، وهي ترى صورتها المستقبلية بين ظلال نجاحاته.
المؤثّرون في المجتمع ليسوا بالضرورة من أصحاب القرار، أو الساسة، أو حتى الأدباء، ومَنْ يعملون في الفكر، والفن، والعلم، والطب، أو الشأن العام، ولو أنهم غالباً ما يكونون من بينهم.. المؤثّرون إنما هم عموماً أصحاب الإسهامات الإيجابية في المجتمعات عموماً، ومَنْ يحققون فوزاً لافتاً.. وأمثال هؤلاء يمتلكون مهارات شخصية خاصة، ليس بالضرورة أيضاً أن يرثها الأبناء عنهم، مما يجعلهم يحتلون مكانة مميزة في مجال اختصاصهم، وفي الصف الأول من النجاح الذي يستقطب نحوه الآخرين.. والحال واحدة سواء أكان ذلك على مساحة الدائرة الصغيرة، ولو في أضيق نطاق لها كأن تكون على مستوى الأسرة مثلاً، أو أن تلك الدائرة تتسع لتصبح على مستوى اجتماعي أوسع، أو أنها تصل إلى العالم، فيذيع الصيت، وتنجذب نحوه الشهرة، والأضواء.
أما أعداد هؤلاء المؤثّرين فتظل قليلة إذا ما قورنت بأعداد المتأثّرين بهم من ملايين الناس العاديين، فما دام التأثير يرتبط بالتفوق كحدٍ فارق فالوصول إليه ليس بالأمر السهل، أو أنه المتاح لأي أحد. ومنهم مَنْ يصبح سفيراً لجهات دولية ترعى قضايا عالمية، أو قضايا إنسانية، أو مجتمعية حيوية بغية الدفاع عنها، أو النهوض بها، نظراً لما يتمتعون به من صفات إيجابية يسهل معها تأثّر الآخرين بهم.
وكلمة (المؤثّرون) انتشرت حديثاً بشكل لافت حتى أصبحت شائعة في كل المجالات.. لكن بمضمون مختلف تبدلت معه المقاييس، والمعايير. فالمؤثّرون الآن باتوا ممن يطلّون من النوافذ الزرقاء، ومن بين خيوط شبكة العنكبوت التي أرخت على مساحة العالم بنسيجها الذي يبدو رهيفاً بينما هو في حقيقته متين.
هؤلاء اللاعبون الجدد ممن يتقنون فن الدعاية لأنفسهم، والإعلان عنها على منصاتهم الافتراضية، ولو كان ذلك في الاتجاه الخطأ، أو أنهم لا يملكون مؤهلات تدعمهم، أو أنهم يعرضون بضاعة رديئة إلا أنها وجدت سوقاً لها، كأن يعرضوا مثلاً تفاصيل من حياتهم الخاصة للغرباء، أو قصصاً مثيرة تعرضوا لها ترضي فضول أناسٍ لا يعرفونهم، لتترك بصمات مشوهة، أو ترسم خطوات حائرة لمن أراد أن يحذو حذوهم.. ففي حقيقة الأمر قد استطاعوا بمهارة أن يصبحوا عنصر جذب لأعداد كبيرة من المتابعين على مساحة شبكة المعلومات يتأثّرون بهم في اختياراتهم، أو في سلوكهم، والغاية في نهاية الأمر تتحقق في استقطاب جمهور يتأثّر، وفردٍ غير مؤهل يؤثّر. وأعداد هؤلاء تتزايد بشكل غير مسبوق كما أعداد متابعيهم.. حتى أصبح أمرهم جميعاً ظاهرة متنامية تستدعي الوقوف عليها، خاصة وأن الشركات الدعائية دخلت على الخط ليغدو هذا التأثير وكأنه بضاعة لها خط إنتاج ممتد.
إلا أننا لا نستطيع أن نغفل دور الوسائل الحديثة في إيصال صوت المؤثّرين الحقيقيين إلى مدى أبعد مما كانت تحققه وسائل الإعلام التقليدية، لكن هؤلاء المشاهير الذين نالوا شعبية واسعة، وأصبحوا نموذجاً للاقتداء بهم ليس من السهل إقامة حوارٍ مباشر بينهم وبين جمهورهم، على عكس الحال مع المؤثّرين الجدد، وهم أناس عاديون، لذلك فهم أقرب إلى معجبيهم، وإمكانية التواصل معهم قائمة دون عقبات، بل إن التفاعل المتبادل مطلوب لبناء الثقة بين الطرفين.
وبعد أن تنبهت بعض المواقع إلى تنامي تلك الظاهرة بانعكاساتها السلبية التي فاقت إيجابياتها، عمدت إلى وضع بعض الضوابط التي من شأنها تحسين منتجها الدعائي هذا الذي يمتد صداه ليصل إلى كل مهتم بغض النظر عن شريحة الأعمار.
إذاً فالمؤثرّات على اختلافها قائمة، ومَنْ يشكلون نماذج حية للاقتداء بهم سلباً، أو إيجاباً أصبحت أعدادهم لا تحصى.. والاختيارات بين هذا وذاك مفتوحة دون حدود.. ووقع ذلك في مجتمعاتنا يتردد صداه عالياً.. واللعبة تُحكِم حلقتها.. إلا أن تلك الشابة الذكية التي تبحث عن مستقبل طموح لها لا شك أنها خرجت من دائرة اللعبة الواسعة لتظل في حدودها الضيقة إذ هي بأبيها معجبة، وقد اتخذت قرارها في السير فوق آثار خطوات أبٍ هو بالتأكيد مؤثّر دون تزييف.. ومثلها يوجد كثير من الأبناء، والبنات.
(إضاءات) – لينـا كيـــلاني