عـدوّي

  الملحق الثقافي:قصة المستشرق: زاهد شاه سواروف:

صادفته في أحد شوارع موسكو. في البداية لم أصدق عينيَّ، لأنه لم يتبادر إلى ذهني في يوم من الأيام أني سأصادفه. في الحقيقة لم أرغب في رؤيته، لأنه كان عدوي، وقد جردني من كل ما أملك، مما دعاني لأن أهرب من بلدي، وقد سلبني حبي الذي لا يعرفه أحد غيري، وقد كنت أحب الفتاة ذات الأصل والجاه والثروة. وكانت هذه الفتاة جارتنا، وفي ذلك الوقت لم تكن هنالك حدود لحبي لها، غير أن تلك الفتاة لم تكن تنظر إليَّ حتى من طرف عينها، لأنني لست من مستواها من كل الجوانب، فقد كنت يتيماً منذ ولادتي.
لم أكن أتذكر أمي، وذكرياتي عن أبي كانت ضعيفة جداً، وليس لديّ أحد في الحياة سوى جدتي. وحتى في قريتي التي تحتضنها الجبال لا يوجد لي أي قريب.
ورغم كوني يتيماً، لم يزعجني أحد من أهالي قريتي. ولم أشعر بأنني أكبر وأنا يتيم، إلا عندما تجرني التدابير في مدرسة القرية. وحتى أنا لم أكن اشعر نفسياً بأني يتيم، وأحياناً تقدم المدرسة المساعدة للأيتام والأطفال الفقراء، وسواء رغبت أم لم أرغب فإن اسمي يدخل في قائمة الفقراء والأيتام. ويزداد شعوري باليتم عند قراءة اسمي، وفي كل مرة بعد هذه المراسيم لا أرغب في الذهاب إلى مدرستي، ولكنني كنت مرغماً على الذهاب إلى المدرسة، ولا أرغب في أن أكون من المتخلفين عن زملائي في الدراسة، وفي نهاية المطاف أجبر نفسي بعد مقاومة طويلة على الذهاب إلى المدرسة. وفي هذا الوقت أنزوي مع ذاتي وأبكي بحرقة وبشكل صامت على مرارة حياتي.
وأقول لماذا عذبني الله ولأي ذنب جنيته! بعد هذا الوقت سأبتعد عن الآخرين وأكون مع نفسي وسأبذل كل جهودي لعدم مجادلة الآخرين، لأن كل جدل مع الآخرين ينتهي بالضرب (بمشكلة) وفي نفس الوقت سأضربهم أو سيضربونني، وفي أغلب الأحيان سيضربونني، وفي النهاية حتى لو ضربتهم فإن أهلهم أو إخوتهم سيضربونني. ولم يكن هناك أحد يدافع عني، بالرغم من أن أهالي قريتي لا يضربونني، وفي النهاية فإن كل كلمة سيئة تؤثر في نفسي.
كانت كلمة يتم تبرز في كل مكان، وفي أيام كثيرة أكون جائعاً، وكانت لي جدة كبيرة في السن وكان تقاعدها البالغ 21 روبلاً لا يكفيها للطعام، وكانت معيشتنا مقسمة بين الجوع والشبع، وكنت في هذا الوقت أعذّب جدتي. وكنت إذا رجعت في يوم من الأيام إلى بيت جدتي، ولم أجد طعاماً أصرخ بصوت عال وأحدث مشاكل. وأقول لها بصوت عال جداً: “لا أعرف أي شيء، إنني جائع وأريد طعاماً”. وأقوم بضرب رأسي بالجدار، بعد ذلك تقوم جدتي بمغادرة المكان لجهة غير معلومة، وتعود بعد فترة وجيزة ملتحفة بالشال وواضعة يدها تحته مخرجةً خبزاً وجبناً تقدمه لي… وتقول لي: “خذ يا بني وكل ولا تبكِ”، وتضيف: “فداؤك جدتك”. وأنا آخذ الخبز والجبن من يدها بشكل نهم وأمضغه بتلذذ، بعد ذلك أركض للعب مع أصدقائي كأسعد ولد في العالم. وهذه الحالة تتكرر كل يوم تقريباً.
وفي يوم من الأيام، شاهدت جدتي تبكي تحت شجرة التوت الموجودة خلف بيتنا، وكانت تأتي إلى هذا المكان كثيراً، وأحسست بأن جدتي تأتي إلى هذا المكان لأجل البكاء، وعندما اقتربت منها وسألتها عن سبب بكائها، مسحت جبيني وضمتني إلى صدرها، وقالت: “أخاف أن أموت وليس هناك من يرعاك إلى أن تكبر، ولا أعرف عند من أتركك عند مغادرتي الحياة”. رددت هذه الكلمات وهي تقبلني مرةً أخرى.
أجبتها: “لا يا جدتي الغالية، أنت أجمل وأقوى شخص في العالم، لا تخافي أن تموتي”. وفي هذا الوقت مسحت بيدي الوسخة دموعها من على خديها وقلت لها: “أنا سأكبر وأشتغل، وسأشتري كل ما تطلبينه، اللحم والرز والزبدة، وستقومين يا جدتي العزيزة بطبخ (البلوف) البرياني، ورائحة (البلوف) ستصل إلى كل جيراننا، ليعلموا بأن نكهة بلوفنا هي ألذ وأطيب من رائحة ونكهة بلوفهم، لأن جدتي تعد البلوف أحسن من كل أهل القرية.. أليس ذلك صحيحاً يا جدتي العزيزة؟”. أتعلق برقبة جدتي، وهي تقول لي: “طبعاً أكيد يا ولدي العزيز.. طبعاً يا ولدي العزيز”، ثم تمسح الدموع من عينيها، وهي تؤرجحني. وعلى مر السنين كنت أكبر وأفهم أكثر فأكثر.
وفهمت وضعي وإرشادات جدتي وتوجيه مدرسي (أرشاد) الذي قال لي: “ادرس يا ولدي”.
رغم كل ذلك، كنت أحب تلك الفتاة وكلي أمل. وكنت أكتب لها أشعاراً كل ليلة. وأقول لنفسي إني سأقرأ غداً كل أشعاري لها، لأقول كل ما في قلبي. ولكن عندما أراها لا ينطق لساني بحرف من أشعاري، وأنسى كل شيء عند رؤيتي لها.
وفي يوم من الأيام تقدم شاب من قريتنا لخطبتها، وفي اليوم نفسه قتلوا محبتي التي كانت تملأ قلبي، ولو كان بإمكاني لأقمت الدنيا رأساً على عقب، وقد وافقت على عذابات حياتي لسوء حظي. وفي هذه السنة توفيت جدتي وعيناها شاخصتان بي، وهي تفارق الحياة.
ماتت جدتي في أحد أيام الربيع الممطرة. فارقت الحياة وهي تنظر إلي محاولةً أن تقول شيئاً، وقد ماتت من دون أن تستطيع أن تقول لي أية كلمة. وفي ذلك الوقت كنت أبكي ليلاً ونهاراً.
ولأمر ما أشفقت على جدتي، لأنها لم تحضر لي البلوف، ولم تنتظر جدتي اللحم والرز… يا إلهي كم حاولت أن أجعلها سعيدة ولكن… الشخص الوحيد القريب إلي قد غاب وأصبحت وحيداً، أنا أختنق رويداً رويداً. وفي أحد الأيام غادرت قريتي العزيزة مجبراً تاركاً أمي وأبي والبنت التي أحببتها مع خطيبها والبلوف الذي لم تعد تعده جدتي، وفي النهاية بيت والدي الفقير والبارد. ثم أصبحت أشتاق جداً إلى قريتي، ولم يفارقني هذا الإحساس طوال حياتي، لكني قد عاهدت نفسي على ألا أعود إلى قريتي إلا بعد أن أكون شخصاً جديراً بالعودة (كبيراً ومحترماً). ولهذا الغرض قطعت الطريق الطويل، لكني لم أحصل على ما أردت، وأخذ إحساسي بالعودة إلى قريتي يتزايد يوماً بعد آخر. وفي النهاية لم أجد المكان الملائم لنفسي. هل تعرف كم أردت العودة إلى قريتي التي تركت فيها كل ما أملك وأسير على آثار طفولتي الصعبة والسعيدة.
وفي أحد الأيام جاء الغرباء واحتلوا قريتي وطردوا أهلها، وهرب الكل باتجاهات مختلفة خوفاً من القتل (الموت) تاركين بيوتهم الغالية، وغالباً ما فقدوا بعضهم البعض، والبعض منهم قتل في نفس اليوم، وقد شاهدتهم جميعاً في خيالي، الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم.
هذا الذي صادفته هو “عدوي”، وطرده من القرية جعلني أولاً لا أصدق عينيَّ. ورغم مرور السنين لم يتغير كثيراً. وللوهلة الأولى لم يعرفني، ثم بعد ذلك عرفني، وعندها كان مسروراً جداً، كما لو أنه وجد شقيقه المفقود منذ زمن، فاحتضنته وضممته إلى صدري وقبلته قبلةً لم أقبّل أحداً بعمري مثلها.
وفي هذه اللحظة كان هو أقرب شخص إلي وأعزّ إنسان عندي، وأخذته إلى أقرب مقهى، وبدأت أسأله عن كل أهل قريتي شخصاً شخصاً من الكبار إلى الصغار، وأسأله عن الأشخاص الذين أعرفهم ولا أعرفهم، لأن كل ذلك كان ضرورياً بالنسبة إلي- سألته عن بيتي، سألته عن شجرة التوت وهل ما تزال موجودة خلف بيتنا… “بيتكم تهدم، ولكن شجرة التوت موجودة إلى حد الآن” – واستمر قائلاً – كانت ثمارها لذيذة ومحصولها وافر كل سنة”.
وأثناء حديثه نسيت نفسي وسرحت في خيالي، وكنت أستمع إلى حديثه مقطعاً، وكنت أعرف أنه يتكلم من حركة شفاهه. وفي هذا الوقت كنت أفكر بأن كل أهل قريتي مثلي تعساء، ولكني كنت أكثرهم تعاسةً. ففي ذلك الوقت كانوا سعداء وأنا حزين. وحالياً بحكم الزمن أصبحوا تعساء مثلي.
وهذا هو الذي حسبته في ذلك الزمان عدوّي جالسٌ الآن أمامي ويذكرني بطفولتي، وفي هذا الوقت أرى في عمق عينيه الحزن وأسأله هل يوجد حل لهذه المصيبة؟ وبدلاً من الإجابة رفع كتفيه ولم يجد الجواب المناسب. ولا أدري لأي سبب يتهرب من النظر إلى عيني وكأنما هو خجلٌ.
وكنت أريد منه أن يحدثني عن كل شيء، وعن كل الناس بشكل مفصل، وقبل كل شيء أريد أن أسأله عن زوجته، لأمر ما لم أجد الجرأة لأسأله وكأنما فهمني، فأجابني: “لي ثلاثة أولاد، وأكبر أبنائي اسمه مثل اسمك”. عندما سمعت هذه الكلمات، شعرت بتوقف قلبي، وسألته: “لماذا اخترتم هذا الاسم”، فأجاب: “لا أعرف. زوجتي سمته”. قال هذا محولاً نظره إلى نقطة مجهولة على الجدار خلفي.
وفي هذا الوقت، شعرت بشيء ساخن في داخلي، ومرةً ثانية عدت إلى عالمي، ثم لم أعد أسمع حديثه معي، إلا عندما ذكر اسم الفتاة. شعرت برعشة، فاستيقظت من خيالي وسألته: “ماذا قلت؟”- أردت أن يعيد ما قاله.
فرفع رأسه ناظراً إلي، ماسحاً دموعه بكفه، مكرراً اسم الفتاة بصوت خافت، ومضيفاً: “يرحمها الله”.

التاريخ: الثلاثاء10-11-2020

رقم العدد :2020

 

آخر الأخبار
"لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها