الملحق الثقافي:حامد العبد:
لاحظ الإنسان منذ أيام الحضارات القديمة، وبشكل عفوي، أثر الفنون بشكل عام على الإنسان والجماعة أو المجتمع، بدءاً من أقدم هذه الفنون (فن الرقص) مروراً بفنون الرسم والنحت، وانتهاء بالأدب الذي يعرّف بأنه فن مادته الإنسان وأداته اللغة. تلك اللغة التي هي في الأصل من اختراع المجتمع وليس الكاتب أو الأديب. وأغلب الظن أنه في البداية كانت هذه الفنون (ومن بينها الشعر الذي هو أقدم الأجناس الأدبية على الإطلاق) كانت مختلطة بطقوس دينية وأعمال سحرية نتيجة تأثيرها العجائبي على ذهنية الإنسان، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الفنون بمجملها مازالت تحتفظ حتى الآن بقدر كبير من التأثير السحري على الإنسان المعاصر.
فعندما يستمع الإنسان لقصيدة مؤثرة أو يقرأ رواية ممتعة، يجد أن هذه الأعمال تمده بطاقة إيجابية تجعله أكثر قدرة على تحمل عبء الحياة اليومية وهمومها، وتساعده على التشبث بالحياة أكثر وتساهم في صفاء ونقاء نفسيته وسريرته. وقد لوحظ أن قراءة الأدب تساعد في تواصل الإنسان مع الآخرين، وتعزز ثقته بنفسه وتنمي فيه القدرة على التخيل الإبداعي، والاستمتاع بخفايا اللغة وجمالياتها، تلك اللغة التي هي بالنسبة إلى الإنسان العادي مجرد أداة للتواصل اليومي لا أكثر.
هذا على صعيد الفرد، أما على صعيد المجتمع فقد نظر الكثيرون إلى الأدب، على أنه مرآة تعكس المجتمع وقضاياه الشائكة من فقر وجهل و صراع طبقي وما إلى ذلك من قضايا يتناولها علماء الاجتماع والنفس والاقتصاد وغيرهم بطريقة مباشرة. أما الأدب فيمتاز عنهم بأنه يتناولها بطريقة غير مباشرة، ويغلفها بغلاف من المتعة وسحر البلاغة، ما يجعلها تصل إلى قلوب القرّاء وعقولهم بطريقة أكثر انسيابية وقبولاً.
إن الأدب ليس مجرد إعادة صنع للقيم والمبادئ، بل هو تكوين لها أيضاً، فقد يتمثل الكثير من أفراد المجتمع قيم أبطال روائية من صنع مخيلة الأديب، أو يجسدون أفعالها فيحبون أو ينتحرون أو ينحرفون حسب تأثير هذه الشخصيات. ومن الملاحظ أن هذا التأثير يزداد كلما كان عمر القارئ أكثر يفاعةً، أو كلما كانت تجربة قراءته للأعمال الأدبية أقل نضجاً.
ومما لا شك فيه أن هناك عدة صلات بين الأدب والمجتمع، بدءاً من الكاتب الذي ما هو إلا فرد في مجتمعه، ولا بد لمنشأ الكاتب وانتمائه الاجتماعي أن يجد تعبيراً له في أدبه ولو كان طفيفاً. مروراً بالنص الأدبي نفسه، الذي يستحيل عليه أن يكون ذاتياً تماماً وخالياً من مضمون اجتماعي، فأكثر المسائل التي تطرحها تلك النصوص، هي في حقيقة الأمر مسائل اجتماعية كما ذكرنا سابقاً، وانتهاء بجمهور المتلقين أو القرّاء الذي يشكل جزءاً قد يكبر أو يصغر من المجتمع. ولا ننسى هنا أن نجاح أي عمل أدبي أو كساده، أو شهرة أي كاتب هي في النهاية ظاهرة اجتماعية أولاً وأخيراً، ما دامت الشهرة تقاس بالتأثير الفعلي للكاتب على غيره.
إن الأديب، وإن كان منخرطاً في وسطه الاجتماعي بحكم الضرورة والمنشأ، إلا أنه يفترض به أن يكون أكثر رقياً من هذا الوسط، فهو قبل أي شيء يفترض به أن يمتلك ذهناً متقداً يؤمّن له بصيرة ثاقبة وحدساً سليماً يجعله يتحسس مكامن النقص والضعف في مجتمعه، ويحذر أبناء هذا المجتمع منها. كما يفترض به أن يمتلك حداً أدنى من الاستقلال الفكري، يجعله في مأمن من الانسياق وراء التيارات المتعصبة التي تؤثر على بقية أفراد المجتمع، وأن يكون متخطياً لكل ما من شأنه أن يعطل مسار إبداعه، دون أن يعني ذلك أن يصبح هذا الأديب محايداً ذهنياً، أو منعزلاً عن الظرف الاجتماعي الذي يعيشه. ومن هنا يتوجب عليه أن يعيَ بعد ذلك أن موهبته ليست ملكه وحده، وأن عليه عبء المساهمة في إنقاذ بقية أفراد المجتمع الذين يعانون نفس معاناته.
ولكن هناك من يحاجج بعكس هذا التصور عن الدور الذي يلعبه الأدب والأدباء في المجتمع، وينادي بضرورة استقلال الأدب وحياديته، وانحصار اهتمامه بالنواحي الجمالية التي وُجِد هو وبقية أنواع الفنون من أجلها، ولعل مقولة الفن للفن تجسد هذا التوجه بامتياز، أو مقولة الفيلسوف الإيطالي بينيدتو كروتشه (1866-1952):
«إن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن.. بل هي مهمة الأديان وعلماء الأخلاق».
ويرى أصحاب هذا التوجه، أن الأدب حين يعالج بشكل مباشر القضايا والمسائل الاجتماعية الشائكة، فإنه لا يضمن أن يصبح مجرد أدب شعارات يرددها كالببغاء، أو أدب مقالات تقريرية، فيفقد حينها هذا الأدب جماليته وثراءه الفني، ويخسر عفويته وتلقائيته التي تتولى مهمة فتح الأبواب له أمام قرّائه واستساغته من قبلهم.
ولكن مهما يكن من أمر، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر الدور التوثيقي الاجتماعي للأدب، إذ يمكن لنا أن ندرس الأعمال الأدبية كوثائق غير مباشرة تتحدث عن طبيعة المجتمعات وأحوالها في حقب زمنية مختلفة، كما أن هذه الأعمال قادرة أن تعطينا فكرة صادقة عن هذه المجتمعات وبالتحديد الأجنبية منها والتي لم يتسنَّ للقارئ زيارتها كما هو الحال في الروايات العالمية، بل حتى في المجتمعات المحلية غالباً ما تكون الأعمال الأدبية ذات قيمة توثيقية، فالكثير منها استطاع أن يقدم لنا معلومات ثرية عن فئات وطبقات اجتماعية مختلفة، وعن أصحاب مهن متعددة لم يكن لدى القارئ إلمام كاف بها. ومن هنا نستطيع القول إن الأدب يشارك بطريقته الخاصة في صنع الهوية الثقافية لمجتمع معين، ويشكل جزءاً من التراث اللامادي للمجتمعات التي تتوارثه جيلاً بعد جيل، وهذا ما يعطي للمادة الأدبية الجيدة والمتقنة ثقلاً تاريخياً لا يستهان به.
إن المجتمع الذي لا ينتج أدباً أو يقرأه، هو مجتمع متحجر، متخشب يسير على درب التخلف الحضاري أو حتى الانقراض، أكثر من سيره على طريق الحضارة والحياة. ومن هنا يتوجب على أصحاب المسؤولية في هذا الميدان تحضير أفراد المجتمع لكي يكون الأدب ممتعاً بالنسبة إليهم، والعمل على جعل ذائقتهم الأدبية أكثر رفعة، والانتباه إلى مسؤولية الأديب الاجتماعية التي لا تعني أن ينجرف وراء الذوق السائد في مجتمعه. فالعمل الأدبي لا يشترط به أن يكون مفهوماً أو مقبولاً من قبل الجميع، كما أن الأدب ليست مهمته اختراق الأبواب المفتوحة سلفاً، بل فتح الأبواب المغلقة أمام إبداعه. وعندما يفعل الأديب هذا، فإنه لا يفعله من أجل ذاته فقط، بل من أجل مجتمعه أيضاً. وعلى الأديب أن يعلم أن الحدود بين الأدب الممتع المرغوب به دائماً، وبين الأدب الرصين والعميق الواجب تقديمه للمجتمع، ليست سهلة الترسيم دائماً، كما أنها ليست ثابتة، خاصة في زمن الثورات المعرفية والمعلوماتية الكبرى في عصرنا الحالي. فالمتعة لا يمكن لها أن تعني البلاهة والاستهتار، كما أن الأدب الرصين لا يعني الضجر والفوقية.
إن المجتمعات كافة بحاجة إلى وجود أدباء بين أبنائها، ولهذه المجتمعات الحق في أن تطالبهم بأن يكونوا مدركين لحجم دورهم الاجتماعي. وهذا الحق لم يكن موضع نقاش في أي مجتمع متطور يعي ذاته ويعي التحديات التي يواجهها، بعكس المجتمعات المتخلفة التي تستهتر بدور أدبائها. ومع ذلك يجب على أدباء هذه المجتمعات المتخلفة أو التي في طريقها إلى الانهيار (إن كانوا صادقين)، أن يعكسوا صورة هذا الانهيار في أعمالهم. وإذا كان الأدب حريصاً على أداء وظيفته الاجتماعية، فيجب عليه أن يُبين لهذه المجتمعات بأن الأمور قابلة للتغير نحو الأفضل. وهنا يتوجب عليه أن يكون أول هؤلاء البادئين بالتغير.
التاريخ: الثلاثاء10-11-2020
رقم العدد :2020