لا أتذكّرُ تماماً إن كانَ بيتُ تميم بن مقبل:
ما أطيبَ العيش لو أنّ الفتى حجرٌ تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ
قد خفقَ في وجداني العميق، أو تردَّدَ في ذاكرتي عندما كتبتُ قصيدة “في حانةِ القنديل”، فالأمرُ حدثَ قبلَ نحو عشر سنوات، لكنَّ أحد الأصدقاء من محبّي الشعر أشار إلى ذلك متسلِّحاً بعبارتين من القصيدة: “أجلسُ صخرةً ملساءَ مُغلَقَةً” و “تنبو الحادثاتُ عن الفؤاد”، وحتى يصبحُ الأمرُ أكثر وضوحاً أورِدُ مقطعاً من القصيدة وردت فيه العبارتان:
“في حانةِ “القنديلِ” /أختارُ البعيدَ من الأماكنِ/ عن صُراخِ الراقصينَ وضجّةِ الأنغامِ/أجلسُ صخرةً ملساءَ مُغْلَقَةً/ تُغطّيها المياهُ/ أفرُّ من شبحِ الوفاءِ ومن أحابيل الحنينْ! في “حانةِ القنديلِ”؛
قُربي موقدٌ تتراقصُ النيرانُ فيهِ /على صدى الأنغامِ/ أرشفُ كأسيَ الملأى على مهلٍ/ وأغرقُ في السعادةِ والخمولِ؛ /خمولِ من هزمتهُ طيبَتُهُ/ شهامَةُ قلبِهِ…/ في “حانةِ القنديلِ” تنبو الحادثاتُ عن الفؤادِ/ يمرُّ بيَ الجنونْ؛ رقصاً… غناءً…/ عالماً يمضي إلى ما ليسَ يَعْرِفُ!.. إلخ”
قلتُ لصاحبي لماذا لم تقل إنَّ في القصيدةِ تناصاً مع بيتِ أبي الطيب المتنبي الشهيرِ:
أصخرةُ أنا مالي لا تُحرِّكُني هذِي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ
شَرَدَ الرجلُ قليلاً ثم أجاب لعلّ المتنبي أيضاً أفادَ من بيت تميم بن مقبل نفسِهِ في قصيدتِهِ وهو القارئُ العالمُ بالشعِرِ العربي…
ضحكت وأثنيتُ على كلامِهِ، وقلتُ لهُ مازحاً أنتَ تذكِّرني الآن بما قالَهُ خورخي لويس بورخيس: “ما ندعوهُ إبداعاً هو مزيجٌ من نسيان ما قرأناه وما نتذكَّرهُ”، وكانَ سبقه بنحو 1500 سنة إلى ذلك زهير بن أبي سُلمى حين قال:
ما أرانا نقولُ إلّا رجيعاً ومُعاداً من قولنا مكرورا
على أنّي لستُ مع هذين الرأيين وإن كان فيهما غير قليل من الحقيقة…
هنا قاطعني صَاحبي وكأنّه اكتشفَ كنزاً: “لنعد إلى بيتِ تميم بن مقبل نفسه، ألا تظن أنّ قصيدة محمود درويش “ليت الفتى حجرٌ”، ما كان لها أن تولد لولا بيت تميم، ولم ينتظر جوابي.
بل راحَ يُنشِد:
“ليتَ الفتى حجرٌ /ياليتني حجرُ/ أكلَّما شردتْ عينانِ شَرَّدني/ هذا السحابُ سحاباً / كُلَّما خمشت عصفورةٌ أفقاً / فتشتُ عن وثنِ؟ / أكلّما لمعتْ جيتارةٌ خضعتْ / روحي لمصرَعِها في رغوةِ السُفُنِ / أكلما وجدتْ أُنثى أنوثَتَها / أضائني البرقُ من خصري وأحرَقني / أكلّما ذبلتْ خُبّيزَةٌ / وبكى طيرٌ على فننٍ / أصابني مرضٌ / أو صحتُ: ياوطني! / أكلّما نوَّرَ اللوزُ / اشتعلتُ بهِ / وكلّما احترقا / كنتُ الدخانَ ومنديلاً / تُمزِّقُني / ريحُ الشمالِ، ويمحو وجهيَ المطرُ؟ / ليتَ الفتى حجرٌ / يا ليتني حجرُ” فكّرتُ بعد أن صمتَ صاحبي أنّ بيت تميم بن مقبل هو صرخة ألم، جاءت على شكل أمنية أطلقها شاعرٌ جاهليٌّ كان يبكي زوجته التي فَرّقوهُ عنها، وأصبَحَ البيتُ عمليّاً رثاءً للزمنِ الجاهليِّ كُلّه، وتمكَّنَ الزمنُ وعمقُ البيت فكريّاً ووجدانياً أن يجعلا منهُ صرخةً تعبرُ الحِقب وتصلُ إلينا وتدفعنا إلى كتابةِ إبداعاتٍ جديدة مُعاصرة… ولا شك أن هذا البيت كان مفتاحاً معنويّاً وموسيقيّاً لقصيدةِ محمود درويش، وكان ملهماً لغيرِهِ من الشعراء، لكن يجب أن ننتبه إلى الجماليات الجديدة التي قدّمها درويش وغيرُهُ وهم يستندونَ إلى بيتِ تميم وينطلقونَ منه، فدرويش مثلاً لم يقف عندَ ما أصابَهُ ابن مقبل من معنى بل سعى إلى تجاوزه… إنّه يتمنّى لو كان حجراً ليس رغبةً في أن تنبو المصائب والكوارث عنه فحسب ويبقى صلداً متماسكاً غير آبه… بل هو يرغب بذلك – على سبيل المجاز – كي يخفّفَ قليلاً من الألم الذي يعانيهِ حيال كل ذلك الجمال الذي يمرّ بهِ والذي يتذوّقَهُ فيبعث فيهِ أحاسيس هائلة مختلفة متبانية، ما كان له أن يشعرَ بها لو كان حجراً.. إلى غير ذلك مما تطرحه القصيدة..
إضاءات- د. ثائر زين الدين