لم يعرف التاريخ المعاصر شعبا صبر وصابر وناضل وارتقى فوق الجراح وسما إلى الذرا كما الشعب السوري في هذه الحرب العدوانية التي تستهدفنا منذ عشر سنوات، إنما من قبل ذلك بكثير، لكن الخطوب الكبرى تصقل المعادن وتزيدها لمعانا وبريقاً أصيل، وهذه حال السوريين لم يكونوا يوماً خارج دائرة الصبر الخصيب أبداً، عشرة آلاف عام من الفعل الحضاري والبذل والعطاء لم تكن كفيلة لأن يكف أشرار العالم عن أذاهم، بل يعملون على رجم هذا التاريخ الحضاري والثقافي ومحوه إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
في عبقرية الجغرافيا والمكان التي كان الدكتور جمال حمدان أول من درسها، من خلال كتابه شخصية مصر وعبقرية مكانها، لا يمكن لك أن تفصل استراتيجية الدور تاريخياً وجغرافياً وثقافياً عن المكانة التي تحتلها، فسورية قلب العالم ومركز خصبه وبستانه الذي يعطي ألوان الثمار كلها، والعابرون الطامعون كثيرون، طامعون بالمكان والثروات والتاريخ والدور، جربوا الكثير من أساليب العدوان وكانت الهزيمة حصادهم .
وحدهم السوريون انتصروا في جغرافيا المكان والتاريخ والثقافة والحضارة، والدور والقدرة على اجتراح المعجزات، اليوم تبدو هذه الجغرافيا الهائلة (جغرافية الصبر) بهية نضرة، لا تحتاج إلى من يبحث عنها وراء الأكمة، هي في كل بيت ومع كل حدث، وقرب كل ركن من أركان المكان والحياة والفعل، جرب أن تزور أي بقعة جغرافية سورية لتراها بهية نضرة، سافر إلى درعا إلى السويداء، إلى القنيطرة، حلب، إلى الساحل السوري، من حمص إلى طرطوس واللاذقية، إلى حماة، ماذا سترى؟.
لاتنقل بالكلمات، ولا ترسم بالحرف ما تراه، دع آلة التصوير المحايدة تفعل ذلك، لئلا يقال إننا نكتب مشاعرنا، نعم اترك (للكميرة) دور الشاهد، واجمع الحصاد الذي سيتحاج شهوراً، بل ربما أعواماً حتى تنتهي منه، وبأبسط الحالات، قُد سيارتك بنزهة عابرة، مع أننا لسنا بزمن النزهات، لن ترى حبة تراب غير معطرة بعرق عامل أو فلاح أو مروية بدم الشهداء، سترى السنديان الشامخ وقد استطال بفروع جديدة وتجذر أكثر واكثر بالآلاف من صور الشهداء على أعمدة الإنارة ستكون أمام ملحمة الحياة، هذا شهيد في حمص ودرعا وحماة وطرطوس واللاذقية وحلب، كل قرية من القرى أو شارع في المدن ستكون أمام قديسي الزمن الذين ارتقوا لنبقى وليبقى الوطن.
سترى دروباً وبساتين شقها الصبر والعمل الدؤوب، لم ييئس السوريون لحظة واحدة يودعون شهداءهم ويمضون إلى خصب الحياة، إنه الصبر، الصبر على المر والأمر، صبر على جراح بسيوف بعض من كنا لهم الدواء والماء والشراب والغد، الصبر على من أكل وشرب، اثرى من الوطن وبلحظة غدر كان على المقلب الآخر..
الصبر على من لا يرى الوطن إلا مكسباً ومغنماً، ومازال يتلطى وراء أول فرصة ليعمل سكينه ذبحاً، الصبر على من لا يرحم أهله ووطنه، نعرفهم واحداً واحداً، قد يكونون قلة قليلة، وليسوا في ركب الحياة إلا بثوراً، لكننا سنقول بصوت مرتفع: نعرفكم، نعد أخطاءكم وخطاياكم، ونمضي إلى حقولنا، جامعاتنا، مدارسنا، معاملنا، إلى كل ما في مفردات الحياة من أمل وعمل، صبرنا دهري، لا بداية له، ولا نهاية، لكنه يرسم حدوداً لوطن يعرف لحظة الانعتاق والتوق، إنه شغف السوري بأن يبقى سيد العطاء، وهل من صبر أبعد غور من صبرنا ؟.
معا على الطريق- ديب علي حسن