في إطار احتفاء الموسم الثالث لأيام الفن التشكيلي السوري بمئوية نصير شورى، أُشير هنا إلى مشاركته عام 1941 بتأسيس مرسم (فيرونيز) في دمشق مع عدد من الفنانين، من بينهم محمود جلال وميشيل كرشة وعبد الوهاب أبو السعود ومحمود حماد ورشاد قصيباتي ونصير شورى وناظم الجعفري وخالد العسلي وجميل مسعود الكواكبي. كما استضاف المرسم فنانين معروفين أمثال: سعيد تحسين وفاتح المدرس وغالب سالم والفرد بخاش وسهيل أحدب. أي أن المرسم قد جمع فنانين من جيلين لا أقول مختلفون، وإنما متتاليون..
أطلق الناقد المرحوم طارق الشريف اسم أو وصف جيل الحداثة على الجيل الثاني من الفنانين التشكيليين السوريين، وقد شاعت هذه التسمية بعده ذلك أن الجيل الذي ينتمي إليه نصير شورى ومحمود حماد وفاتح المدرس والأخوان أدهم ونعيم اسماعيل والياس زيات وبرهان كركوتلي ولؤي كيالي ونذير نبعة وسواهم.. هو من صنع هوية الفن التشكيلي السوري الحديث باستلهامه التراث الإبداعي السوري الثري، وانفتاحه في الآن ذاته على مفاهيم الفن في عصره، فأبدع فناً أصيلاً لا يتقوقع على ذاته، ولا يذوب في غيره. وإلى ذلك اتسم هذا الجيل بالعمق المعرفي، وبالحوارات العميقة في تجمعات سمتها الأساسية الثقافة والإبداع.
يمتلك طارق الشريف الحق بإطلاق الاسم الذي يختار، فقد ركز اهتمامه حول الاتجاهات الراهنة في الفن التشكيلي السوري أواخر الستينات، وتجلى هذا في كتابه (عشرون فناناً من سورية) الذي أنجزه عام 1969 والصادر عن وزارة الثقافة عام 1972 متضمناً مقالات عن عشرين فناناً كتبها بين عامي 1967و 1968. وفي الوقت ذاته تابع بحثه حول بدايات الفن التشكيلي السوري الذي أسس لمحاولته الرائدة لتأريخ هذا الفن، والتي نشرها في مطلع الثمانينات فكانت مستنداً لكثير من الأبحاث والدراسات التي جاءت بعده، ومنها كتاب (الفن التشكيلي المعاصر في سورية) الذي أصدرته (صالة أتاسي) عام1998 وأثار اهتماماً واسعاً في الوسط التشكيلي.
ومع ما سبق، وكل التقدير الذي أحمله لطارق الشريف وإنجازه، فإني (من جهتي) أفضل استخدام وصف جيل الرواد الثاني، لأن هذا يحدد دور هذا الجيل من جهة، وينصف الجيل الأول من جهة أخرى، فلا يجعل الثاني انفصالاً عنه وإنما استمراراً له. ففي موجة الابتهاج بالحداثة يغيب أحياناً الحديث المنصف عن جيل الرواد، الحديث الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف الصعبة التي أحاطت بهم، أو شجاعتهم في مواجهتها فحسب، وإنما أيضاً العمق الفكري والثقافي الذي تستند إليه (مغامرتهم التشكيلية) وهو ما يمكن التعرف عليه عن كثب من الدراسة العميقة للسير الحياتية والإبداعية لتوفيق طارق ومنيب النقشبندي وغالب سالم وعبد الوهاب ابو السعود وسعيد تحسين ورشاد مصطفى وميشيل كرشة وخالد معاذ ورشاد قصيباتي ووهبي الحريري وإسماعيل حسني وسواهم.
يقول محمود حماد (في مقالة تعود لعام 1965، نشرتها ابنته السيدة لبنى على صفحة (بدايات الفن التشكيلي في سوريه): «إن التصوير بمعناه الجديد، المتمثل في اللوحة التي تعلق على الجدار، لم يظهر إلا في أوائل هذا القرن. ونذكر في هذا المجال من المصورين اسم بشارة السمرة، الذي قام بإنتاج عدد كبير من الصور الشخصية لمعاصريه، إلى جانب اللوحات الدينية. إلا أن الاسم الذي ترك أثراً ظاهراً في تاريخ الحركة الفنية، هو توفيق طارق، المهندس، المزخرف الرسام الكاريكاتوري، وبخاصة المصور».
إن هذا التقدير، الذي عبّر عنه أحد أهم أعمدة الفن التشكيلي السوري، وأحد رموز الحداثة فيه، تجاه رائد التشكيل السوري، المنتمي بطبيعة الحال إلى جيل الرواد الأول. يقابله التقدير الذي عبّر عنه ميشيل كرشة من الجيل الأول لنصير شورى من الجيل الثاني، وقد ترجمه بأكثر من لوحة صور فيها كرشة (رائد الانطباعية السورية) نصير شورى، إحداها وهو يرسم في فناء منزل دمشقي تقليدي، وثانية وهو يرسم في الطبيعة. ولما سبق -وسواه- يمكن اعتبار نصير شورى أحد نقاط التواصل بين جيلي الرواد. أما سواه فيتمثل في تحولات تجربة شورى من الواقعية الطبيعية منذ مطلع الأربعينات وحتى منتصف الستينات، إلى التجريد الهندسي في النصف الثاني من الستينات، إلى الانطباعية من مطلع السبعينات ولأواخر الثمانينات، فإلى ما يمكن وصفه بالانطباعية التجريدية. وهو الأسلوب الذي ظل مرافقاً له حتى آخر يوم في حياته. مع الاحتفاظ دائماً بروحها الانطباعية بأصولها وجذورها وتحولاتها. وهو ما جعل اسمه مرتبطاً بها، وجعله رمزاً سورياً لها.
كان نصير شورى متفرداً في أسلوبه، ومرهف الإحساس باللون. وعلى الرغم من تفوقه في تصوير الأشخاص، كما تدل على ذلك لوحاته أثناء الدراسة وخاصة لوحة (الفتى البائس)، فقد كان شغوفاً بتصوير مشاهد الطبيعة بأسلوبه الخاص، وبفضله استمر الاتجاه الانطباعي بالحضور في مرحلة الخمسينات وما تلاها.
إضاءات- سعد القاسم