النزاعات تقوم بين البشر لأسباب لا حصر لها، وآثارها الجارحة تقع على جميع الأطراف.. وهي لا تكتفي بأن تقع بين الأفراد بل هي أيضاً على مستوى الشعوب، والدول، والقارات.. وها هم بعد أن طفت على السطح أنواع منوعة من الخلافات، والاختلافات التي تؤدي إلى الصدامات أخذوا يقيمون الندوات، والاجتماعات، والمؤتمرات للوصول إلى قلب تلك الصفحات، وهي دوماً صفحات سوداء لا تنبض فيها أي سطور بيضاء.
والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه بإشارة استفهام بلون النار، والخطر: وماذا بعد الخلاف والصدام؟ هل التسامح هو القيمة الإنسانية، والأخلاقية التي يجب أن تنهض لتحسم مواقف النزاع وتضع حداً لها، لتطفو على السطح فتُغرق ما جعل مياه الحياة تتعكر؟.. أم أن خطوة التسامح عليها أن تسبق العداء بخطوة حتى لا يقع؟.
أجل إنه التسامح فيما بين طرفين قبل أن يصبحا المتخاصميَن.. ولكن عن أي تسامح نتحدث؟ وما هي الحدود المسموحة له؟ وهل من بعض الأمور ما يجوز معه ذلك، أو أنه يتحول ليصبح نوعاً من التساهل؟.. لنسأل أنفسنا من جديد عن مبدأ هذا التسامح، وعلى ماذا تقوم أسسه؟.. فعندما يكون التعدي على الحقوق من دون إحقاق الحق بين طرفي النزاع يصبح التسامح حينئذٍ تساهلاً، فللتسامح شروطه التي تحكمه من قيم أخلاقية لابد من مراعاتها، ومن احترامٍ لحقوق الطرفين.. وحتى نحن كأفراد عندما نمارسه بشكل تلقائي، وعفوي، يكون الأمر وفق تلك الشروط التي تضبطه دون أن تنقلب عليه، وكموقف أخلاقي نقوم به فنضيف من خلاله إلى رصيدنا لدى الآخرين.
ولكن.. عندما يتحقق التعايش الذي يقوم على ثقافة الحوار، وتقبل الآخر، وحرية التعبير بعيداً عن التعصب، والعنف، عندئذ يصبح احترام الاختلاف ممهِداً لأن يكون التسامح أمراً قابلاً للتحقق ببساطة، وهذا بدوره يقرّب بالتالي بين الناس، كما بين ثقافات الأمم، والشعوب، وانطلاقاً من الدوائر الضيقة وصولاً إلى الأمداء الواسعة.
إن تحقيق العدالة الاجتماعية لا ينبثق من فراغ، بل إنه ينشأ من فهم أبعادها، وتنشئة الأجيال وفق مقاييسها، وضوابطها، وتوجيههم نحوها.. وما المشاركة المجتمعية إلا درس عملي يرسخ مفهوم هذه العدالة.. أما التراث الثقافي الشعبي الذي نتداوله من خلال حكاياته، وقصصه فهو يلعب دوراً لا يستهان به في تقريب فكرة التسامح حيال أمر ما، أو نفيها.. وكل هذا دون تجاوزٍ لدور التعليم فيما يتناوله في مناهجه الدراسية، ووسائل الإعلام فيما تتداوله في قنواتها.. مع الأخذ بعين الاعتبار للمتغيرات التي تطرأ على المجتمع، والمعاصِرة منها على وجه التحديد لتسارعها، وحدّتها، وما قد يصاحبها من مشكلات تؤدي إلى الصدامات.
واذا كان اقصاد اليوم يقوم على أساس التنافسية، فالعدائية قد تكون حاضرة بشكل أو بآخر ما لم تُفرد مساحة للحوار أخذاً وعطاءً، فهماً واستيعاباَ، وقبولاً لمبدأ العدالة الإنسانية، لا رضوخاً للمشاعر، والأمزجة.
ولمّا كانت الحياة باتساعها تتلون بكل ألوان فصولها، فإن خلافات البشر فيما بينهم هي كذلك أيضاً، إذ تتنوع أسبابها، ودرجاتها، ومخاطرها التي يمكن أن تصل إلى حد الجريمة ما لم يكن هناك تسامحاً يلغي أجواء الكراهية ليستبدلها بالعلاقات الهادئة إن لم نقل بالودودة.
فالتسامح ثقافة مجتمعية تقوم على أساس احترام الآخر، وقبول الاختلاف فيما بين طرفين، وإقامة الحوار الواعي، والتعايش الإيجابي بينهما.. فما أحوجنا اليوم والعالم يتفجر بنزاعاته إلى ترسيخ هذه الثقافة، ونثر بذورها في تربة أكثر المجتمعات انغلاقاً على أفكارها، وممارساتها.. فثورة الاتصالات التي قرّبت بين شعوب الأرض باتت تفرض فكراً جديداً، وتؤسس لعلاقات جديدة لابد أن تقوم على مبدأ التسامح ليصح التعايش. ولكن.. دون التساهل لأن فيه ضياعاً للحقوق، وتفريطاً بما يجب ألا يُقرّط به.. ويظل الخيار يتأرجح بين هذا وذاك ما لم تتضح المفاهيم لدى أصحابها ليضعوا علامات فاصلة تكون حدوداً فارقة بين ما هو من التسامح، وما هو من التفريط، والتساهل.
إضاءات ـ لينــــــا كيـــــــــلاني