الثورة أون لاين- فؤاد الوادي:
فشلت القوة العسكرية الغربية بشموليتها، رغم قدرتها الكبيرة على نشر الموت وإحداث الدمار والخراب، في تحقيق أهدافها الجيوسياسية التي كانت ولا تزال تطمح إلى الوصول إليها في معظم المناطق والدول التي سعت إلى احتلالها واستعمارها والتي تقاطعت عند نهب خيراتها وثرواتها والتحكم بمصادر الطاقة والنفط وحركة الملاحة العالمية.
لكن الليبرالية الحديثة ممثلة بالغرب ودوله الاستعمارية القديمة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها وشركائها، وبرغم فشلها في تحقيق الكثير من أطماع منظريها وأهدافها الاستراتيجية التي تضمنتها مشاريع الغرب وخططه الاستعمارية والاحتلالية، فإن هذا الغرب لم يوقف استخدام آلته العسكرية الغاشمة التي لا تزال تبطش بشعوب العالم، بل على العكس من ذلك فقد واصل حروبه الدموية والوحشية على العديد من دول وشعوب العالم، لاسيما تلك التي كانت تقف حجر عثرة في طريق مخططاته ومشاريعه الاستعمارية، ولكن عبر حروب ناعمة وطرق أخرى مختلفة، حيث فتح حدوده لإغراق العالم بمفاهيم وثقافات مسمومة، كما فتحها في مراحل سابقة لإغراق العالم بالإرهاب والإرهابيين، وكان الهدف الأساسي من ذلك ضرب ونسف وتحطيم كل القيم والأخلاقيات التي تبني الإنسان وتصون الأوطان وتحفظ كرامة وحرية وإنسانية الفرد.
قبل الإرهاب العسكري والاقتصادي الغربي ومعه وبعده، كان (الإرهاب الثقافي) الذي اتخذ شكل الغزو الفكري الشامل والواسع، والذي كانت نتائجه وآثاره وبرغم بطئه في الوصول إلى أهدافه، أكثر دماراً وخراباً للشعوب والأخلاق والقيم والمبادئ من الحروب التقليدية.
من أبرز (الأسلحة الثقافية) التي لا يزال الغرب يستخدمها لتفتيت منظومات القيم والأخلاق الحاملة للدول والأوطان، لاسيما في منطقتنا العربية، كان سلاح الليبرالية الحديثة التي تحدث عنها السيد الرئيس بشار الأسد بإسهاب شديد في خطابه الأخير في جامع العثمان، انطلاقاً من كونها أحد أهم أدوات وأسلحة الغرب الحديثة والفتاكة لضرب ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا ونسف كل معتقداتنا من جذورها، عبر تسويق ونشر منهجيتها تحت عناوين الحرية الفردية التي تجعل من الفرد أساس كل شيء بدلا من الأسرة والمجتمع، ومن خلال ضرب المسلمات التي من شأنها أن تؤدي إلى تصدع وانهيار الثنائيات الطبيعية للإنسان عموما، ولشعوبنا العربية على وجه الخصوص وهذا كله بهدف إضاعة البوصلة وتشتيت الفكر والعقل عن المبادئ والقيم الحقيقية للإنسان، أي إغراقه في أيديولوجيات خادعة وزائفة ترتدي أثوابا براقة للحرية والديمقراطية.
ضمن هذا السياق كان الهدف الأساسي لليبرالية الحديثة هو نسف وتدمير المسافات الفاصلة بين الثنائيات الطبيعية للإنسان، (الحق والباطل، الخير والشر، الانتماء واللا انتماء)، وصولا إلى دفعه إلى الخلط وعدم التمييز بين تلك الثنائيات بعد أن يدخل المنطقة الرمادية والضبابية، ليصبح غير قادر على تحديد مواقفه وخياراته، وبالتالي يصبح سلخه عن قيمه وعن وطنه وعن هويته وانتمائه أمراً سهلاً وواقعاً وطبيعيا لأنه بات يعيش في الفراغ والضياع، وهنا الخطورة الأكبر، لان الأعداء يمكنهم من خلال هذا التشتت والضياع التسلل لتحقيق أهدافهم وغاياتهم الاستعمارية، بعد أن تكون قد ضربت المسلمات والمبادئ في العقل العربي وبعد أن تكون قد تداخلت نزعات الباطل مع قيم الحق، واختلط الشر والخير بحيث لم يعد من السهل التمييز بينهما.
وهكذا يصبح الاحتلال مقبولا بعناوينه الناعمة وشعاراته البراقة حول نشر الديمقراطية والحرية، ويتسلل الضعف والتهاون واللامبالاة إلى النفوس وتضيع المعايير التي تميز بين طرفي كل ثنائية، وهذه هي الغاية الكبرى لتلك الأطراف التي تتبنى مشاريع احتلالية واستعمارية للهيمنة على المنطقة وسرقة خيراتها وثرواتها، وفرض أجندات غريبة عنها وجعلها أمرا واقعا لا مفر منه.