الثورة أون لاين – أحمد حمادة:
إنها قوانين التوحش الاقتصادية، وشطب آدمية الإنسان، وتحويله إلى مجرد آلة، مستهلك، بلا قيم، ولا قيمة، قوانين “الليبرلية الحديثة” الاقتصادية، التي تريد امتلاك خارطة العالم وثرواته وسكانه، وتسجيلها في سجلات “الطابو” لحفنة من المجرمين واللصوص وأصحاب الشركات الاحتكارية الجشعة في بلاد “العم سام”، وليذهب فقراء العالم وجُياعه إلى الجحيم.
إنها قوانين “الليبرالية الجديدة” الاقتصادية التي تضرب عواصفها وأمواجها العاتية مجتمعات العالم، ليس بثقافاتها وعاداتها وقيمها ونشر الإرهاب في ربوعها والسير بمراكب غزوها واحتلالها فحسب، بل تضرب عميقاً في اقتصاداتها، وتحول حياتها إلى جحيم لا يطاق.
إنها “النيوليبرالية” أو “الليبرالية الجديدة” كما هي بالعربية، التي حولت حياة الفقراء في مختلف دول العالم إلى موت بطيء، وشكّل أنموذجها الجديد في الاقتصاد الوجه الأكثر بشاعة عبر التاريخ الإنساني، فلم تقم أي اعتبار لدور الدول في أموالها واقتصاداتها، وأطلقت العنان لحرية الأسواق، بل كان لهذا الشكل الجديد “للرأسمالية العالمية” تأثير عميق يتجاوز حدود الاقتصاد وتخوم السياسة، لأن السمة الطاغية للمنهج الليبرالي الحديث تمثل بازدهار الجريمة وتشابكها مع النشاط الاقتصادي، ما أدى إلى ظهور “المافيا” في أكثر البلدان التي سارت وفق أجندات “الليبراليين الجدد” ونظرياتهم المدمّرة.
لن أتحدث عن عمليات الخصخصة، التي يصفها البعض بأكبر عملية سرقة في التاريخ، ولا عن بيع مؤسسات وشركات الدول الكبرى إلى حفنة من الرأسماليين بأبخس الأثمان، ولا عن تشريد مئات الملايين من الموظفين في مختلف القارات، بل سأشير فقط إلى نظرية “إطلاق العنان لارتفاع الأسعار” في معظم الدول التي انتهجت نهجها، والتي أدت إلى التضخم المفرط لديها، وإلى ارتفاع هائل في دَينها العام، ومن ثم إلى عجز مزمن في موازناتها العامة، لتتحول المجتمعات إلى طبقتين، الأولى حفنة من الأثرياء، والثانية أكثرية ساحقة من الفقراء، وتم القضاء في الكثير من المجتمعات على الطبقة الوسطى.
وقد روج الليبراليون الجدد مفهومهم بأن الدولة لا يجب أن تتدخل بشيء، وأن يقتصر عملها على تنظيم التداول النقدي من خلال التحكم بأسعار الفائدة وعمليات الأوراق المالية، فكانت محصلة هذه السياسة، في العديد من الدول التي سارت بركبها، راغبة أو مرغمة، تقهقر الصناعة والزراعة، وتقويض البنى التحتية، وتراجع الإجمالي المحلي، وتقلص الاستثمارات، وإفلاس مؤسساتها الصناعية وبيعها بأسعار بخسة إلى شركات أجنبية جشعة.
وليس هذا فحسب بل أدت تلك السياسات المتوحشة إلى إفقار القسم الأكبر من السكان بعد خسارتهم وبصورة فورية لمدخراتهم وكل ما جنوه على مدى العمر، نتيجة الأزمات المالية والاقتصادية العالمية التي افتعلوها غير مرة، لا بل إن هذه التوجهات الرأسمالية اقترنت بالكثير من المجتمعات بعملية نهب وحشية جشعة لثروات البلاد من قبل عدد محدود من رجال المال والسياسة والاقتصاد.
ولأن لهذا التوجه الليبرالي الجديد أدواته التنفيذية المأجورة في دول العالم النامي فقد استخدم هؤلاء، وخصوصاً في بعض البلدان العربية، مصطلحات عديدة لتسويق أنموذجهم بدءاً من تسويق “اقتصاد السوق” وانتهاءً ب”الإصلاحات الراديكالية” مروراً حتى بما سمّوه “السير على طريق الحضارة الغربية” المزعومة، وصولاً إلى استنباط ما أطلقوا عليه مصطلح “الرأسمالية الشعبية”.
لكن الأخطر من كل هذا أن نظريات المدرسة “النيوليبرالية”، التي اعتمدتها بعض البلدان، استخدمت غير مرة صيغاً اقتصادية تدميرية للمجتمعات وبأشكال أكثر عنفاً، ويوثق خبراء الاقتصاد أن ممثلي “مدرسة شيكاغو” في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي جسدوا هذه الصورة المتوحشة والصارخة واعتمدوا سياسات اقتصادية لا تعرف الرحمة، وضربوا الشعوب والدول بصميم اقتصاداتها.
وكلنا يذكر تجربة تشيلي البارزة في هذا الصدد، حين أقدمت الحكومة هناك على خصخصة قطاعات واسعة من القطاع العام، كما قامت بقمع الحركة العمّالية، ودعمت الشركات الكبرى، وبسطت حمايتها على رؤوس الأموال، وكانت النتائج عصيبة وكارثية، حين مررت النخب الحاكمة وصفة “النيوليبرالية” عبر دماء الشعب التشيلي.
ومن هذه الصيغ التدميرية للمجتمعات فكرة تخلي الدولة عن دورها وإطلاقها العنان لحرية قوى السوق، وفي أسواق المال على وجه الخصوص، ويرى خبراء الاقتصاد أنه في هذه الأسواق تجلت على نحو صارخ التحولات المفزعة التي أدت إلى تراجع دور الدولة في الشأن الاقتصادي عندما تركت الأسواق المالية تعمل بمطلق حريتها، ولم تضع قواعد مناسبة لعمل هذه الأسواق، ولم تخلق المؤسسات الضرورية القادرة على فرض رقابة معقولة عليها، فتخلت الدولة عن الرقابة المتشددة على أعمال المصارف وعلى تدفقات رؤوس الأموال، وألغت القواعد الصارمة التي تحكم أنشطة “البورصات”، وتحولت أسواق المال إلى ساحة تستقطب المضاربين، وحلبة للجشع ولتحقيق الأرباح بسرعة خارقة، ما انعكس سلباً على الطبقة الاجتماعية الواسعة التي تمثل بأغلبها الفقراء.
وبالمختصر نشأ في ظل النموذج النيوليبرالي اقتصاد افتراضي يعمل بمعزل عن نشاط الاقتصاد الحقيقي، هذا الاقتصاد الافتراضي ارتكز على الربح الريعي السريع من خلال المضاربات في الأسواق المالية والمضاربات العقارية، فتحققت أرباح طائلة وتراكمت ثروات هائلة في أيدي المضاربين، من دون أن تكون لها علاقة بالإنتاج، وهي ما تسمى ظاهرة “الأرباح من دون إنتاج”، وعليه فإن أسهم الشركات وقيم سندات المال لم تعد ترتبط بإنتاجية المؤسسات وأرباحها، بل بحال السوق المالية والعرض والطلب على هذه الأسهم والسندات، بوصفها سلعة أساسية ومستقلة عن المؤسسة التي تصدرها، والتي يمكن أن تصعد أو تهبط قيمتها نتيجة مضاربات أو إشاعات تبث من دون أساس أحياناً.
كما أظهرت الأزمات المالية والاقتصادية التي ضربت العالم في السنوات الأخيرة أن المدرسة “الليبرالية الجديدة”عرضت أسس التطور الاقتصادي في العالم للخطر، وحوّلت حياة الشعوب إلى جحيم.
وكلنا يذكر جيداً كيف أن سياسات السوق الجديدة التي دعمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية استطاعت أن تهيمن على معظم العالم، وعممت “رأسمالية الكوارث” من خلال استثمار الكوارث الاجتماعية والسياسية والطبيعية، واستغلال الشعوب التي صدمتها تلك الكوارث، وفرضت شروطها عليها بلا رحمة.
وكلنا قرأ أيضاً في كتاب “عولمة الفقر” للباحث الاقتصادي الكندي “ميشيل تشوسودوفيسكي” كيف أن عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية التي فرضها الدائنون الدوليون على بلدان العالم الثالث منذ ثمانينيات القرن الماضي، والمستندة على خطاب نيوليبرالي، أدت بنهاية المطاف إلى تفكيك مؤسسات تلك الدول وتمزيق حدودها، وإفقار الملايين من أهلها، ونشر البطالة بينهم، وتقويض الحريات وحقوق الإنسان، وتدمير بنى الاقتصاد المحلية وأهمها تدمير قطاع الزراعة والثروة الحيوانية كما حصل في إفريقيا، وكلنا سمع وشاهد آلاف الأمثلة عن تدمير “الليبرالية الحديثة” لإنسانية البشر، والسير بهم إلى الهاوية.