الثورة أون لاين – علي الأحمد :
من المؤكد وعلى ضوء منتوج الغناء العربي المعاصر، أن الملحنين الجدد في موسيقانا العربية، يعتمدون بشكل أساس على التقليد والاتباع، وليس الإبداع والخصوصية التي تمنحهم مكانة مغايرة عن السائد المعمم، فأغلب الألحان المعروضة في سوق الإنتاج الفني، تتشابه في جملها اللحنية وحتى في طرق كتابتها وممارستها، وكأن هذا الملحن، قد أفرغ مافي جعبته، دفعة واحدة ، واستراح من عناء البحث عن صيغ ومسارات إبداعية غير مسبوقة، كما فعل رواد التلحين بدايات ومنتصف القرن الماضي.
هذا المسار المغاير في التلحين، أثّر بشكل سلبي، على مكتسبات الهوية الموسيقية العربية الأصيلة، وبات من الصعوبة بمكان، التمييز مابين المبدع والمدّعي، حيث يزداد عدد ممتهني الغناء بشكل كارثي ، ويتحول هذا الفن النبيل، إلى مجرد سلعة، من دون أية قيمة ذوقية أو جمالية تذكر.
وساعد في ذلك تكاثر عدد المحطات الفضائية والإذاعية الخاصة، الأمر الذي تطلب، زيادة في معروض هذا الفن، بما أطلق حمى التنافس غير الشريف بين شركات الإنتاج، وهو ما أدى في حقيقة الأمر، الى صعود التنافس الى مطارح وأمكنة لايمكن أن يتخيلها عقل أو منطق. فأغلب هذه الشركات باتت مصنعاً للأغاني الحسية التجارية، على حساب قيمة التفرد والخصوصية التي ميزت فن الغناء العربي على مدار التاريخ. حين كان هذا الفن النبيل، لايقاربه أو يقترب منه، إلا كل ذوحظ كبير من العلم والمعرفة والثقافة الرفيعة ، وكان من المحال، أن يدخل هذا المجال كل من هب ودب، كما يحصل اليوم في المشهد الموسيقي المعاصر، مشهد أقرب الى العبث والمجون، تقذف من خلاله هذه الشركات التجارية مئات الأعمال، التي يموت أغلبها، لحظة ولادته، لأنه فن لقيط وكسيح، يعتمد الإبهار والتسطيح، إبهار العين وتسطيح الذوق، وكما أسلفنا تجتاحه حمى التقليد، واستنساخ الآخر، وهو هنا مع كل أسف التجاري الاستهلاكي، هذا الأمر ترك أثره البيّن على سوية التذوق وفن الإصغاء والتلقي، وفي حقيقة الأمر لعبت وسائل الإعلام بمختلف مسمياتها وقنواتها دوراً لايستهان به، في تشكيل وصياغة هذا الذوق العام، والترويج بقصد أو عن غير قصد للفن الهابط، عبر التجارة بالفن، وإفساح المجال لأشباه ومدْعين وعديمي الموهبة والثقافة والعلم، في الظهور على منصاتها. وخطورة الأمر تكمن في مقولة، “أن الفن تربية وتعوّد” ، فحين يتم تعوْد المتلقي العربي، على هذه السوية الرديئة من الألحان المبسترة المعلبة، فسيؤدي ذلك وبشكل حتمي الى عطب وخلل بنيوي في التذوق والإدراك الجمالي وموت الوجدان بسبب طغيان الجانب والبُعد المادي على الجانب الروحي .
نعم، تعيش أغنيتنا العربية اليوم، أزمة مستعصية، تبدأ في ندرة وسوية الشعر الغنائي، ” بيت القصيد” كما يقال، مرورا بالألحان الأصيلة التي تغيب عن مجمل تفاصيل هذا المشهد مع استثناءات محدودة، وصولاً، إلى غياب معايير الجمال والدور الرسالي العظيم، الذي من المفروض أن تتبناه هذه الأغنية في التعبير عن قضايا الوطن والإنسان الجوهرية، فهل مايقدم من منتوج هذا الفن اليوم، يندرج ضمن هذه المفاهيم؟ … بالتأكيد الجواب سيكون صادماً كالواقع العربي المرير، فهذه الأغنية تتأثر من دون أدنى شك، بالمتغيرات والأحداث التي تمر بها بلداننا العربية، والتي فتحت المجال لأصحاب الضمائر الفاسدة، والمال الأسود المُفسد، الدخول الى عالم هذا الفن الجميل من أوسع أبوابه، ومع ذلك لابد من القول، أن ثمة من يعمل على ردم الهوة السحيقة وخلق واقع موسيقي عربي جديد، يعيد بعض التوازن مع التيار التجاري الاستهلاكي الذي يسود ويتسيد المشهد،بعيداً، عن تنميط الذوق الموسيقي، وقولبته ضمن أنساق العولمة التي لاتعتمد على الأشكال المتعارف عليها في التلحين، بل تعتمد وكما يُنبئ عنها منتوجها الفقير، الى الإبهار والتسطيح، بعيدا كل البعد عن القيم التراثية الراسخة سواء في التلحين، أو القيم التربوية المغيبة عن نتاجها ومنتوجها، ذو النسق الواحد، الذي أدى في حقيقة الأمر، إلى ضياع قيمة التنوع الإنساني الخلاق ، الذي حفلت به موسيقات الشعوب على مدار العصور والأزمنة. وهو مع كل أسف تيار صاعد بقوة المال والإعلام ، يؤكد على الثقافة البديلة الاستهلاكية، وإحلالها مكان الثقافة الأصيلة التنويرية، ، التي حمت واحتمت على مدار التاريخ برسالة ودور هذا الفن الإنساني العظيم ذوقياً وجمالياً.
يقول الباحث الدكتور “يوسف طنوس” في بحثه المهم ” الملحن العربي المعاصر بين الإبداع والنقل” :” يبدو معظم الملحنين العرب المعاصرين، ناقلين وغير مبدعين، جاهلين أو غير مكترثين، لتراثهم، يفضلون ركوب الموضة العالمية، على حساب هويتهم الموسيقية. وكأنهم، شأن العديد في القطاعات العربية الأخرى، وليدة التبعية والنقل وردة الفعل والمصادفة، يحاولون أن يقلدوا الملحن الغربي في ألحانه الموسيقية وأنماطها وأشكالها وتوزيعاتها وحتى في آلاتها الموسيقية وذلك على حساب تراثاتهم الموسيقية الغنية وتطويرها، لقد ساهم عدد من الملحنين والمغنين والمنتجين ووسائل الإعلام في تغيير ذوق المتلقين من مستمعين ومشاهدين، فبات من يسمع التراث أو من يسمع كبار الملحنين والمطربين أمثال أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب ووديع الصافي متخلفاً و”رجعياً” ولايواكب العصر، وكأنه طائر يغرد خارج سربه. بينما من يسمع الأغاني الجديدة عصري ومنفتح ومتطور. ومايقال عن المستمعين يقال أيضاً عن الملحنين والمغنين.