منذُ أن تلوَّث الإنسان بالدمّ

الملحق الثقافي:إنصاف قلعجي : 

«تصوّرْ حجم ما مات فينا حتى تعوّدنا على كلِّ ما يجري حولنا».. عبارة، وردت في رواية «أعدائي» للشاعر والكاتب «ممدوح عدوان» الذي يثير في القارئ شهيّة التفكير والكتابة، ويتحدث في صفحات سابقة عن موضوع «التعوّد» على الشيء فيقول: «نتعوّد؟.. تعرف ماذا تعلمنا يا أبي؟.. ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئاً عن التعوّد، حين نشمّ رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلّها تتنبَّه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة، يخفّ الضيق.. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حسَّاسة في مجرى الشمّ قد ماتت فلم تعد تتحسَّس، ومن ثمَّ لم تعد تنبِّه الجملة العصبية، والأمر ذاته في السمع، حين تمر في سوق النحاسين، فإن الضجَّة تثير أعصابك، لو أقمت هناك لتعوَّدت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم، وللسبب نفسه، فالشعيرات والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت، نحن لا نتعوَّد يا أبي إلا إذا مات فينا شيء.. لذا، تعودنا الإذلال حتى الصمت والعزلة».
ربما عام، ربما لحقه عام، وأعوام تتلاحق، منذ كهفنا الأول، وقد فقدنا الحسّ بالزمن، وأضعنا البوصلة، وضيّعتنا الأمكنة منذ ارتددنا من «إنسان» حضاري، لنعود مرة أخرى إلى سلالة» القرود»، ومنذ أن تلوّث هذا «الإنسان» بالدمِّ مرة تلو المرة، فمن الذي أيقظ شهوة التدمير فيه؟.. أصحاب رأس المال، الحضارات المزيفة، رائحة النفط والدراهم، الجشع، أم الحروب بالوكالة؟؟.
سعى البدائي إلى تطوير نفسه عبر تاريخ البشرية، وكان يسعى ما أمكن للقضاء على الوحش الكامن في أعماقه، إذ كان لديه، وكما يقول «عدوان» في كتابه «دفاعاً عن الجنون»: «كان لدى الإنسان حلم جميل حول نفسه، وكان يصبو إلى السموِّ على شرطه الإنساني، ولكنَّ تتالي الأحوال فتح في هذا الحلم جرحاً، وبدأ الحلم ينزف ويضمحل، وراح يتَّخذ مع ضموره أشكالاً وتسميات».
وحول محاولة البشر القضاء على الوحش الكامن في الجسد، يقتبس «عدوان» في كتابه «حَيْوَنَة الإنسان» فقرة وردت في «ملحمة جلجامش» حول محاولة ترويض أنكيدو «الوحش» ليتخلص من «حيوانيته» ويصبح بشراً».. يحاول ترويضه، بالمرأة، بالحب، أو بالحياة الاجتماعية والعاطفية في صيغتها الأولى، وهكذا إلى أن يتحول «أنكيدو» المتوحش إلى إنسان.
لكن البشرية في زماننا القبيح هذا، ترتد إلى «حيوانيتها» الأولى، فتقتل وتدمر وتأكل الأكباد، وتقطع الرؤوس والأوصال، وتحرق الأطفال، وتدمر الناس الآمنين، والبنى التحتية والفوقية، وتستبيح النساء، وتقودهن إلى عالم السقوط فيما يسمى «جهاد النكاح»…. الخ.
وفي الصراع الدائر داخل الإنسان بين الوحش الكامن فيه، وبين إنسانيته، يورد «ممدوح عدوان» نصاً من التجربة الذاتية للروائي اليوناني «كازانتزاكيس» الذي يقول في «تقرير إلى غريكو»: «كلَّما توغلت أكثر في بحثي عن أول سلف رهيب في أعماقي، وأنا أتغلغل في ركام روحي، قهرني رعب قدسي، ما إن أتعمق نحو الجذور حتى يبرز بين جنبيّ سلف كثيف الشعر كبير الفكين، يجوع ويظمأ ويخور، وعيناه مليئتان بالدم، هذا السلف هو الوحش الضخم الأشعث الذي أُعطي لي لكي أحوله إلى إنسان، ولكي أرفعه إلى ما يسمو إلى الإنسان إن استطعت في الوقت المخصص لي- ويقصد عمره – فأي صعودٍ مخيف من قردٍ إلى إنسان، ومن إنسانٍ إلى إله؟!.
يضيف: «كان عقلي يلفّه دوار غريب، تعثرتُ كسكران، وبدا لي، وأنا أمشي، كأني أمشي على القمر أو أنني، قبل مجيء الإنسان، موجود على أرض مغرقة في القدم وغير مأهولة، ولكنها مألوفة جداً، وبغتة وعند أحد المنعطفات، لمحت أضواء خافتة تشع بشحوبٍ من بعيد قرب قاع المسيل، لا بدَّ أنها قرية صغيرة لا يزال أهلها مستيقظين، عندها حدث لي شيء غريب ما أزال أرتعد حين أتذكره، توقفت وأشرت بقبضتي المشدودة إلى القرية وصرخت غاضبا: سأذبحكم جميعاً!.
صوتٌ أجشٌّ ليس صوتي!.. بدأ جسدي كله يرتعش خوفاً، حالما سمعت هذا الصوت، وركض صديقي إليَّ وقبض على ذراعي بقلق. سألني: ما بك؟ ومن ستذبح؟، تراخت ركبتاي وأحسست بتعبٍ لا يوصف، ولكنني استعدت وعيي حين رأيت صديقي أمامي. قلتُ له هامساً: ليس أنا، لم يكن أنا، كان شخصاً آخر.. كان فعلاً شخصاً آخر، ولكن من؟. لم يسبق لأعضائي الحيوية أن تفتَّحت بهذا العمق، وهذا الكشف، فمنذ تلك الليلة صرت متأكداً مما تكهنت به منذ سنوات: في أعماقنا طبقة فوق طبقة من الظلمة.. أصوات خشنة ووحوش جائعة كثيفة الشعر.
ألا يموت أي شيء إذا؟. ألا يستطيع شيء أن يموت في هذا العالم؟. الجوع والعطش والبلاء البدائي وكل الليالي والأقمار، ما قبل مجيء الإنسان ستستمر في الحياة والجوع في أعماقنا، ستظمأ معنا طالما نحن نعيش، لقد جعلني الرعب وأنا أسمع الحَمَلَ المخيف الذي أحمله في أعماقي، وقد ابتدأ يجأر، ألن أتخلص أبداً؟ ألن تنظف أعماقي أبداً؟»..
هو الذي قال أيضاً: «ستجد أيها القارئ في هذه الصفحات، الأثر الأحمر الذي خلفته قطرات من دمي. الأثرُ الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار.. روحي كلها صرخة، وأعمالي كلها تعقيب على هذه الصرخة».
 كاتبة وأديبة أردنية

التاريخ: الثلاثاء12-1-2021

رقم العدد :1028

 

آخر الأخبار
تركيا: يجب دعم سوريا.. واستقرارها مهم لأمن وسلام أوروبا ترحيب عربي وإسلامي باعتماد الجمعية العامة "إعلان حل الدولتين "  ناكاميتسو تشيد بتعاون سوريا في ملف الأسلحة الكيميائية وتصف المرحلة الحالية بالفرصة الحاسمة  مشاركة وزير التربية والتعليم في البرنامج الدولي للقادة التربويين في الإمارات  "الخارجية" تُشيد بالمبادرة الأخوية لقطر والأردن بإرسال قافلة مساعدات إنسانية  مركز نصيب الحدودي.. حركة تجارية نشطة ورفع القدرة الاستيعابية  لقاء الرئيس الشرع مع قائد القيادة المركزية وباراك يفتح آفاق تعاون جديدة لمواجهة "داعش"  الرئيس الشرع.. الاستثمار بوابة الإعمار واستقرار سوريا خيار ثابت المولدة تحرم أهالي "الصفلية " من المياه.. ووعود ! مسؤول العلاقات العامةلحملة "الوفاء لإدلب" يوضح لـ" الثورة" موعد الانطلاقة وأهدافها الرئيس الشرع : سوريا لا تقبل القسمة ولن نتنازل عن ذرة تراب واحدة الرئيس الشرع  يطرح رؤيةً لعهد جديد: سوريا في مرحلة مفصلية عنوانها بناء الدولة بأغلبية ساحقة.. الجمعية العامة تتبنى إعلاناً حول حل الدولتين توافق دولي في مجلس الأمن على دعم التعاون السوري – الدولي لإنهاء ملف الأسلحة الكيميائية اللجنة العليا للانتخابات: إغلاق باب الترشح وإعلان الأسماء الأولية قريباً الرئيس الشرع يستقبل الأدميرال تشارلز برادلي كوبر قائد القيادة المركزية الأمريكية دخول 31 شاحنة مساعدات إنسانية أردنية قطرية عبر مركز نصيب ترحيل القمامة والركام من شوارع طفس "التربية والتعليم": قبول شرطي للعائدين من الخارج وزيرة الشؤون الاجتماعية: مذكرة التفاهم مع الحبتور تستهدف ذوي الإعاقة وإصابات الحرب