في تحليل الظاهرات السياسية الكبرى والأحداث المفصلية التاريخية التي تمر بها المجتمعات وعند المحطات والانعطافات الحادة الناتجة عن المواجهات والصراعات والحروب والأزمات خاصة الداخلية منها لا تقتصر نتائج ذلك وتداعياته على مقتل أفراد ودمار بيوت ومنشآت وغيرها من خسائر بشرية ومادية، بل يترافق معه سقوط وتآكل مفاهيم وانسياق من القيم والمبادئ والأفكار والمعتقدات وولادة أخرى وإذا كان الحديث عند تحليل الحرب العدوانية في سورية وأبعادها الإقليمية والدولية يشير بشكل واضح أنه سينتج عنها إرهاصات أولى نظام إقليمي شرق أوسطي ونظام عالمي مختلف له أسسه ومفاهيمه ومنظومته السياسية ومراكز قوته، فهذا يستدعي حتماً أن بلد المنشأ وهو في هذه الحالة سورية سيتأثر بشكل واضح في إطار البنية الفكرية والثقافية والمجتمعية والأخلاقية السائدة ما قبل الحرب وهذا يعني بالمحصلة إعادة إنتاج مفاهيم أخرى على صعيد بنيته الداخلية ومنظومته الأخلاقية والسياسية تتناسب مع الولادة الجديدة، لأن الصراع القائم بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية سيكون له حتماً استطالات اجتماعية وسياسية وثقافية تصيب المجال العام الداخلي وبالتحديد المنظومة الأخلاقية التي لابد من إعادة النظر في سلم أولوياتها وربما من نقطة تشكلها الأولى.
إن البنية المشكلة للجماعة السياسية السورية بتلويناتها الثقافية والاجتماعية والإثنية والدينية والقومية شكلت على الدوام نموذجاً في العيش والتفاعل والتناغم القائم على الانسجام الداخلي على الرغم من أن الجغرافية السياسية السورية لم تأت متوافقة مع الجغرافية التاريخية الممتدة إلى مساحات أوسع في الوعي العام السوري، بسبب أن الكيانات السياسية التي استولدت بعد الحرب العالمية الأولى جاءت تعبيراً عن إرادة سياسية خارجية فرضتها المصالح الاستعمارية للدول المنتصرة بتلك الحرب التي أنتجت إلى جانب ذلك نظاماً دولياً جديداً كان تعبيره السياسي التمثيلي على الصعيد الدولي عصبة الأمم وعلى الصعيد الأخلاقي والإنساني مبادئ ولسون وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها التي ثبت أنها أزعومة كاذبة بدليل المد الاستعماري الغربي غير المسبوق والذي اختبأ تحت عناوين تمثلت بالحماية والوصاية والانتداب وهي تعابير مخففة لمصطلح الاستعمار.
إن التحولات الكبرى في العالم غالباً ما تكون نتيجة لصراعات بين قوى عظمى أو تأتي مترافقة مع هزات قوية في جغرافيا معينة تشكل إلى حد بعيد مركز ثقل وجذب في إطار الصراع والتنافس الدولي، إما بسبب موقعها الجيوسياسي أو الجيوثقافي وهذا باعتقادنا هو حال ما جرى ويجري في سورية ومعها وحولها ويفسر كل هذا العراك السياسي والعسكري الحاصل في المنطقة والعالم ما يعني بالنتيجة أننا أمام ولادة نظام دولي جديد يعكس في خرائطه السياسية على كل الأصعدة موازين قوى جديدة على الصعيدين الإقليمي والدولي وبالتوازي، وفي الداخل السوري تحديداً سنكون في مجال آخر يعيد إنتاج بنية ومنظومة وطنية وأخلاقية ومجتمعية وثقافية وعقائدية تتقدم بنيوياً ووطنياً كمنظومة على ما كان سائداً قبل الحرب على سورية.
إضاءات- د . خلف المفتاح