الثورة أون لاين- راغب العطيه:
تنمو المجتمعات الإنسانية بشكل عام وتتطور بالتطور الفكري لأبنائها الذين يسهرون على البحث عن كل ما يحقق لها التقدم والاستقرار والأمان والازدهار ، وفي ظل التحوّلات العميقة التي يشهدها عالمنا اليوم نتيجة ازدياد حجم المعرفة العلمية بكل تصنيفاتها ، وخاصة ما هو ناتج عن ثورة الاتصالات والتقانة وتكنولوجيا الإعلام ، تدخل البشرية في متاهات لا حصر لها ، قد تقود أصحابها إلى استنتاجات خاطئة ، ما لم يكونوا واعين لما يجري حولهم ، ولديهم التأسيس المعرفي الكافي الذي يجعلهم قادرين على الغوص في أعماقها والوصول إلى النتائج الصحيحة .
وكون الفكر هو انعكاس للواقع الاجتماعي والاقتصادي ودرجة التطور التي وصل إليها المجتمع ، والعكس صحيح ، فإن على مجتمعنا العربي ككل ، والسوري على وجه الخصوص ، أن يستثمر كل الوسائل التقنية والفكرية المتاحة للانفتاح على المجتمعات الأخرى التي قطعت شوطاً مهماً في التطور والتقدم مع الحفاظ على قيمنا الثقافية والحضارية ، والأخذ من تلك المجتمعات ما يتناسب مع خصوصيتنا وحضارتنا ورسالتنا الإنسانية والتاريخية ، بعيداً عن التعصب والتطرف والعنصرية التي تقود بمجملها إلى ضيق الأفق والانغلاق ، والعمل على تعميم قيم التسامح والمحبة وقبول الآخر بين أفراد المجتمع ، وتكريس مبادئ العدالة والمساواة على كافة الأصعدة وعلى كل المستويات ، للوصول في النهاية إلى مواطنة حقيقية ، متكافئة لا تمييز فيها .
وعالمنا اليوم وفق التطور العلمي المعرفي والتكنولوجي أشبه ما يكون بالمحيط الكبير الهائج الذي تضرب أمواجه العاتية في كل الاتجاهات ، أمنياً واقتصادياً وفكرياً ، ولأنه كذلك فقد تناوله السيد الرئيس بشار الأسد في حديثه خلال مشاركته في الاجتماع الأخير لوزارة الأوقاف في جامع العثمان بدمشق .
والحديث عن الفكر اليوم في منطقتنا ، يعني الحديث عن الدين ، لأنه يدخل في كل جوانب الحياة .. عقلياً وعاطفياً وسلوكياً ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، ومن هنا ركز أعداؤنا منذ أكثر من مئة عام على تخريب الفكر ، من خلال استهدافهم للدين الإسلامي الحنيف بالدرجة الأولى ، وقد حققوا نجاحات كبيرة في هذا الشأن ، من خلال تسييس الدين واستخدامه كوسيلة لتخريب المجتمعات ، بدلاً من تطويرها وتقدمها ، وتأسيس التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من الدين الإسلامي غطاء لأعمالها الإرهابية والإجرامية آخر ما تفتق عنه العقل الغربي الصهيوني ، فكانت الحركة الوهابية وحركة الإخوان المسلمين وما توالد عنهما من تنظيمات إرهابية أخرى كداعش والقاعدة وغيرهما الكثير .
المجتمعات المستهدفة بالأمواج الإرهابية المتلاطمة والمخططات العدوانية الاستعمارية والعقوبات الاقتصادية والحصار والمستهدفة في فكرها ، لا تستطيع مواجهة هذا الكم الهائل من الاستهداف إلا من خلال عوامل الأمان والاستقرار التي تمتلكها ، ومثال على ذلك مجتمعنا السوري الذي تصدى بوحدته وصموده للهجمة الإرهابية القذرة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وانتصر عليها وأبهر الأعداء قبل الأصدقاء ، وذلك لأنه يمتلك عوامل أمانه واستقراره ، ولو لم يكن يمتلك هذه العوامل لغرقت سورية بكاملها منذ الأسابيع الأولى ، وبالوقت نفسه لو كانت هذه العوامل محافظ عليها ومصانة بشكل جيد لما دفعنا ذلك الثمن الغالي اليوم .
وهذه الأمواج الخارجية لن تتوقف بل ستبقى تضرب بمجتمعاتنا بشكل مستمر .. تضرب بنية المجتمع وعقائده ورموزه ، وهذه الأمواج ليست أمواجاً عفوية بفعل عوامل الطبيعة ، وإنما سببها تباين المصالح الدولية وتعارضها .
وفي ظل الاستهداف الخارجي لعالمنا الإسلامي، وبغياب القانون الدولي والمؤسسات الدولية علينا أن نحصن أنفسنا من الداخل ، وهذا أهم من الردع وأهم من كل العوامل الأخرى التي من المفترض أن تحافظ على أمن المجتمع الدولي والمجتمعات الإنسانية من الأخطار التي تتهددها.
إذاً لنبدأ بمسؤولياتنا .. فعندما تحصل إساءات لمعتقداتنا ولرموزنا وحصلت سابقاً .. فمن الطبيعي في مثل هذه الأحوال أن يكون هناك رد من خلال الإدانة الحاسمة والموقف الحازم ، ولذلك نجد أنه بين الهجمة والهجمة على ديننا ورموزنا ، والإدانة والغضب رداً عليها ، يتحول الدين إلى كرة يتقاذفها الانتهازيون من السياسيين ، ومثالنا على ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الغرب ، والذي لديه انتخابات العام القادم وهو يريد أن يستقطب المصابين برهاب الإسلام ، أما في منطقتنا فمثاله رئيس النظام التركي رجب أردوغان الذي لديه أيضاً انتخابات في عام 2023 ، ولم يعد لديه من الأكاذيب ما يضلل بها شعبه وبدأت شعبيته تنهار فقرر أن ينصب نفسه حامياً للإسلام .
ونحن في سورية كمجتمع أصيل يجب أن يتم استخدام المصطلحات الصحيحة والسلوك الصحيح والانطلاق من تعاليم الدين ومن مقاصده حتى يصبح مجتمعنا سليماً ومعافى من جميع الآفات الاجتماعية التي تنتشر كالنار في الهشيم عندما تجد بيئة مناسبة لها .
وفي النهاية وفي سياق الدفاع عن الأديان يجب الانتباه إلى أن الخطر على المعتقدات يأتي من الجاهلين بالدين ومقاصده ، ويبدأ هذا الخطر بالتخلف والتطرف والتعصب وبعدم قدرة أبناء أو أتباع العقيدة على التفكير السليم ، ما يقودهم في النهاية إلى الانخراط في الإرهاب الأسود الذي لا علاقة له بالديانات السماوية لا من بعيد ولا من قريب