الثورة اون لاين :
بين الرواية والشعر تعبر كنسمة ربيع تنثر العطر , ليس أي عطر بل البنفسج البري الذي ينمو في أعالي الصخر , بحيث لا تطوله يد الإنسان قطفاً ليكون في آنية زهر ويذبل بعد عدة أيام , يصر بنفسجها البري الشامخ على أن يظل وحيداً من عل يطل على المشهد البشري , يروي في الحكايا عن سكينة , وعن نائلة , وربما شرب قهوته في مكان ما من أقاصي الدنيا , لكنه لا يبرح عناق الارض والشمس ويلتقط من أنفاس الناس ليصنع قوس قزح.
في الشعر والرواية تقدم سلمى جميل حداد البارعة الفائقة في تجاوز ما كان من منجزها الابداعي, وأي مبدع لا يفعل ذلك, هو تكرار ممل وقاتل لمفردات اللغة التي لا يعني رصفها أنك مبدع , فاللغة المشحونة بطاقة الروح المزنرة ببوح من القلب , المعجونة بالدهشة هي التي تقفز بك إلى سماوات الأفق العالي من الابداع , ولن يكون الترقب سيد الوقت بل أنت في مسار اللغة الشعرية المتفجرة معاني جديدة , هذا ما يسكبه ديوان الدكتورة سلمى جميل حداد الجديد الصادر عن دار نينوى بدمشق , حمل عنوان : أتجاذب معك أطراف الحريق, اي حريق أكثر اتقاداً من أن تكون أنت جذوة اللغة وبهاءها , تنحني لك سماوات الفن وأنت تلونها بانتظارك:
هكذا انحنى الفضاءُ لي
حين توّجني على عرش الانتظار
ملكةً من بقاياكَ تردّني إلى حيث المنفى
يقصّبني إلى تفاصيل ذكرى
ويرميني عظاماً للغياب
وعند عتبات البيوت العتيقة
تتكوّم أحذيةُ الطريق.
يعرج الهواء نحوي بقدميه العاريتين:
سيدتي!
أما تعبتِ من التحديق في خاصرة الفراغ؟
أتريدينني أن أكنس أهدابكِ العاريات
عن جسد المدينة؟
في ضوء عطرٍ نحيلٍ أتدفّأ بوحدتي،
بقميصٍ خلعتُه فألبسني سروالَ الضباب،
بقيتُ وفيّةً لأقفاصكَ الحديدية ومنفاي،
لغيابٍ أطعم الطريقَ ساقيَّ فأدمنتُ الركود
وأقمتُ داخل نفسي وردةً بلا فصول
ثريّةً بما حضر من الغياب.
ويعتق العمر البهي الكثير من أماني العمل والعوة إلى ابتكار أبجديات لا أحد يعرفها , ويجيد حروفها وما فيها غير من أبدعها , وهو الذي سيمضي بها لتكون مجرة من ألق الشعر :
أيتها الأيام المعتّقات
بأنفاسٍ تتدلى من برتقالة الشمس
أعيديني إلى شريانك التاجي
أستولد فيه طقوس حبٍ جديد،
أنت التي أغرقتني يوماً
بأبجدياتٍ أسندتُ إليها معاجمي
ودرتُ حولها كما يدور العبّادُ باتجاه الشمس
اغسلي قاعي من تدفق الفراغ في خطوتي!
هذي دروبي الطويلات
تخلع نعالها وتبذر أقدامها عاريات
فوق أعناق المسافات،
مسافاتٌ.. مسافاتٌ.. مسافات ْ
والخطوة ما أتاها المخاض بعد!!
بستان الشعر ليس سماوات عليا , وحسب , إنما هو مشاتل الحبق والشجر والبشر , هو الشاعرة البهية النضرة التي تعرف كيف يكون العود من جديد , مع بسمة طفل , مع عطر وردة مع سنديانة القرية , مع حقول متماوجة , هي البهية بكل هذا , بل البهي بها شعراً:
أنا المتعددة وحيدة وشتلة حبق
جمعٌ لمفرد تصخبه الجموع
ومفردٌ لجمع تضجره الوحدة والأرق،
ما من ذاكرة أقمتُ فيها
إلا انشغلت عني بجمع التفاصيل
وأعدتني وليمةً للقلق،
عصمتي في يد أفكارٍ أطارحها الجنون
وتطارحني التردد ووقتاً مضى،
أنا المتعددة وحيدة
والضوء الخافت في شهقة روحٍ…
أوصد الأبواب خلفي غياباً
لأصنع حضوراً يشهر سنابله في وجهي
فأحيا بقمحي من جديد.
الشاعرة والناقدة والروائية الدكتورة سلمى جميل حداد في حريقها النوراني تمضي نحو أتون اللغة وتعيده بهياً قادراً على ابتكار الدهشة التي تجعل الفن هوية خالدة.