تجتهد دور النشر، وتتسابق فيما بينها لإصدار كل ما تجده جديراً بأن يخرج إلى جمهور القرّاء.. وكذلك تجهد الجهات الرسمية من وزارات الثقافة، والمؤسسات الفكرية في إنتاج الكتاب، والدول لا تتأخر في دعمه، وغالباً ما تكون تكلفة إنتاجه أعلى من القيمة المباع فيها لهدف نشر الفكر والثقافة، تلك المسؤولية التي تقع على عاتق ميزانيات الدول في دعم الكتاب، والترويج له.
وها هي الآن المنصات الرقمية الخاصة، والعامة، الرسمية منها، أو التي تعود إلى دور النشر الكبيرة تفتح أبوابها على مئات الكتب لتكون بين أيدي القرّاء، وبالمجان أيضاً.. فما من موضوع تراثي، أو معاصر إلا ويجد مَنْ يبحث عنه مصدراً من مصادره.. حتى أن المكتبة الإلكترونية العالمية تكاد تنفجر بأعداد كتب لا حصر لها تتدفق إليها باستمرار، وبكل لغات العالم.
وفوق ذلك فقد انتعشت منذ عقود وتنتعش الآن أكثر، ظاهرة تزوير الكتاب، وخاصة إذا ما كان مؤلفه معروفاً، و كان اسمه من بين الأسماء مطلوباً، ومرغوباً من عموم القرّاء، فإذا بالطبعات المزوّرة من جهات مجهولة معلومة تغزو (بسطات) الأرصفة ولاسيما في غياب مَنْ يراقب، ومَنْ يحاسب.. والناشر الذي تكبد أعلى التكاليف في استقطابه للمؤلف، وما أنفقه من أجور للطباعة، وإخراج للكتاب، واختيار للوحات الأغلفة، وانتقاءٍ لأجود أنواع الورق، وما إلى ذلك حتى أخرج كتابه إلى النور متباهياً به، وهو ينتظر أن يحصد بالمقابل أرباحه منه، فإذا به يجد نفسه وقد حُشر في زاوية ضيقة يتنافس معه فيها ذلك الناشر المزوِّر إذا ما أقبل القارئ على شراء الكتاب المزيف، وانصرف عن الأصلي، والسبب واضح ومعروف وهو الثمن الزهيد للمزوَّر مقابل الثمن المرتفع للكتاب الأصلي.. فماذا يهم من زخارف المنتَج إذا كان المضمون فقط هو المقصد؟..
إذاً فالكتاب أصبح متوفراً بشكل، أو بآخر، وليس فقط في شكله الورقي بل الإلكتروني أيضاً على منصات إلكترونية أعطت لنفسها هي الأخرى حق النشر دون العودة إلى أصحاب الحقوق وحالها حال بسطات الكتاب المزوَّر، فإذا ما اقتربت من واحدة منها تهلل وجه البائع وهو ينتظر أن يبيعك سواء مما صدر حديثاً، أم قديماً لا يهم، وحتى لو كنت ستشتري من الكتب التي باعها أصحابها من فائض ما لديهم من مكتباتهم المنزلية، ومن بينها كتب الإهداءات التي أهداها مؤلفوها إلى أصدقائهم على أمل أن يحتفظوا بها فباعوها بدورهم ليُعاد تدويرها بأسعار تكاد لا تذكر، وقد ينسى بعضهم أن يمزق ورقة الإهداء الممهورة باسم المؤلف قبل أن تتم صفة البيع والشراء.
وها قد جاءت وسائل التواصل الحديثة أيضاً لتطرح نفسها هي الأخرى كمنافس قوي مزوِّرٍ ولكن للفكر قبل الكلمة التي تنطوي عليها الكتب الثمينة منها والرخيصة، لتصدِّر قراءات آنية لها أقل من قيمة اللحظة التي تُقرأ فيها، بينما الكتب ثمينة المحتوى مبذولة على الأرصفة، ولا مَنْ يشتري لأن التسلية الرقمية أكثر إمتاعاً بأخبارها رغم سطحيتها، وبصورها المتدفقة من كل شكلٍ، ولون.
منذ أكثر من عقدين من الزمن كان التساؤل: هل سينتصر الكتاب الإلكتروني على مثيله الورقي، فلا يعود للورق قيمة مقابل ما هو أكثر تطوراً، وتوفراً؟ فكان الجواب ينتصر للكتاب الورقي، وأنه لن يغيب عن رفوف المكتبات مهما بلغ الآخر الإلكتروني من التطور، والتوفر.. إلا أن ما يُلاحظ الآن على الأقل في منطقتنا العربية أن الكتاب قد انخفض رصيده من الطلب عليه مهما كان سعره، أو شكله مقابل الأخبار السريعة، والمثيرة من تغريدات وصيحات، تلتهم الأوقات لكنها تلبي الفضول عند أغلب الناس، وهم يجدونها متوافرة بغزارة على الأجهزة المتطورة التي لا تفارق الأيدي.
فأين هو الطلب على الكتاب إذاً بكل أشكاله؟.. حتى أن الاتحاد الدولي للناشرين إلى جانب منظمة اليونيسف، ومنظمة الصحة العالمية قد أطلقوا مبادرة (العالم يقرأ) لتسليط الضوء على أهمية القراءة، والتأكيد على اليوم العالمي للكتاب.
لكن.. مَنْ يقرأ؟.. والفكر مبذول على الأرصفة، والمواقع الإلكترونية، والكتب تتدفق باستمرار من منابعها شرقاً، وغرباً، وصناعتها لم تتوقف رغم الضائقة التي تمر بها دور النشر في العالم بأسره بسبب الأوضاع الصحية الطارئة.. فالناشرون لم يغلقوا أبواب دورهم، والكتّاب لم تصمت أقلامهم، وسباقات الكتب بين الرائجة والأكثر مبيعاً، لاتزال قائمة.. إلا أن المنافسة تحولت في مسارها ليس بين كتاب أصلي وآخر مزوَّر، بل بين ما يفيد وما لا يفيد.. بين حبة الماس البراقة، وقطعة الفحم داكنة السواد.. فمن يشتري؟
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــلاني