الملحق الثقافي:موسى حوامدة *
لن تجدَ مستقبلينَ بانتظاركَ، لن تجدَ بساطاً أحمر، أو أكفَّاً تتهافت عليك للسلام، ولا وجوهاً تبتسم لتقبيلِ محياك.. لن تجدَ صالوناً أو غرفة نومٍ، أو حتى سريراً ترتاح عليه من وعثاء السفر، والشعور بالغربةِ اللفظيّة في ديار النأي، ولن تجد يا صاحبي حتى مقعداً بانتظارك، أو عصا تتَّكئ عليه، فلستَ سوى عابرٍ زائل، لن تترك أثراً على المكانِ حتى لو أقمت فيه كلّ عمرك، وأفنيتَ جلَّ عقلك، وعروق جسدك، ولن يمنحك المكان صفرته، وحرارته، حتى لو ولدتَ فيه وشربتَ ماءه، وصنعت خيطاً من هدبِ شمسه، أو ضياء من نوره.
لن يقبلك المكان ولا القاطنون، ولن تتشبَّث بكَ الطرقات التي مشيت عليها، ولا الشرفات التي جلست فيها، ولا الجبال التي رسمتها، ولا المدينة أو القرى التي أحببتها، ولا حتى جدران الخواء المتكسِّر بين يدي الجفاء والقطيعة والخشونة.
لست سوى عابر أيها الغريب، ولست سوى هباء متناثر، في كؤوسِ المساء وفناجين قهوة الصباح، وأمسيات الوشاة!.
قلت لكَ في غابر الزمان، حين كنت شقيَّاً ومؤمناً بأن الأرض وطن الحشرات، كما هي وطن البشر كلّهم: أن الحواجز التي تمنعك من الطيران حقيقية، وأن الإقصاء الذي تشهده طيورك أمرٌ واقعي، لكنك في كلِّ مرَّة كنت تخذلني، وتسحبني إلى بيتِ الحلم، وحديقة الخيال، وبستان الوهم.
ما عليَّ إلا أن أُعيدَ عليك الدرس، فسوف تخونك الكلمات كما خانت كليم الله، ولن تنفعكَ الأدعية القديمة بعد أن مات صاحباها في كمينٍ واحد، ومكيدة منظَّمة، فقد كانت تصلح على ما يتقبَّل منها للاستعمال مرة واحدة، على ما يبدو.
أنتَ في طريقكَ الآن، وإن توقفت الخطوات والدروب، وإن سكنت الطرق والشعاب وهجعت الأرض، واصل سيركَ وضياعك، فأنت زائلٌ إلى مكانٍ لم يُخلق بعد.
كان عليك أن ترشو الأفق ببعض الزهور، وأن تُهدي الخراب بعض الخصال، وأن تنزّ من صبوة الغرام كمد الحسرة، لكنك آليت أن تظلّ أبيضَ طاهراً، لا تدنِّسك الوساوس، ولا تخالط مشاعرك المصالح، فبقيت وحدك في عزلةٍ لم يتذوق طعمها غريبٌ من قبل، ولا حتى جبل عسيب.
تشبثتَ بالسوسن وقلتَ للأخضر: يا طريقي، فمات ماؤه واحتطب عوده، وتكالبتْ عليكَ الحشرات من كلِّ حدبٍ وفضاء، وحين جنحتَ للأنين، رفضتْ طبولُ الحي شكواك، وعمدت إلى إطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ابتهاجاً بحزنك، واحتفالاً بموتكَ المعنوي قبل الفيزيائي.
وبعد يا صديقي الذي فيَّ، ويا مدينتي التي أتخيَّل، ويا وطني المصلوب فوق كَتفيَّ، ترجَّل فقد تعبنا، ولم نصل للشاطئ، ولم ترافق خطواتنا المغنِّيات وحاملات الحناء والبخور والصندل. ترجَّل فلم يعد بمقدوري حملك أو إتِّباعك، ولم يعد واحدنا يدلُّ الآخر على النبع الذي جفَّ، أو على جهة الرحيل التالية.
*شاعر وكاتب فلسطيني
التاريخ: الثلاثاء30-3-2021
رقم العدد :1039