الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
أغمسُ ريشتي في الحبرِ لأكتب، فتزهر بين سطوري بيّارات البرتقال، وتغيم الهوامش، إذ تَحُدُّ صفحتي من كلّ الاتّجاهات، أشجارُ زيتون راسخة رسوخ الإرادة والذّاكرة، متجذّرة تجذّر القضيّة في نفوسنا، فلطالما كان السّؤال الذي يلحّ عليّ ويؤرّق أفكاري كطفلة لم يتبلور وعيها بعد: “لماذا نتشبّث بقضيّةِ جيراننا وندفع الثّمن غالياً؟”، ولم يكن الجواب التّقليديّ الذي تردّده الأمّهات والجدّات على شكلٍ مثلٍ شعبيّ ليروي فضولي: “إن كان جارك بخير، فسيعمّ الخير على الجميع” إلى أن تلقّيتُ الإجابة الشاّفية من مدرّس مادّة الاجتماعيات، حين قال: “من يسكت على انتهاكِ دار الجوارِ سيأتي يوم ويجد فيه الغرباءَ يسرحون ويمرحون في عقر داره”، قد تبدو هذه مجرّد عبارات، ولكنّها، وعلى بساطة مفرداتها تحمل جوهر هذه القضيّة العروبيّة الإنسانيّة.
مع هذه الأفكار، يطلّ من ردهاتِ الذّاكرة البعيدة اسمٌ لكتابٍ تأثّرنا فيه ورسم ملامح وعينا، فكان من أجمل مقرّرات مناهجنا الدّراسيّة في اللّغة العربيّة في الصّفّ الثّاني الإعداديّ، “حقّ لا يموت”.. كتاب ذُيِّلَتْ كلُّ قصّة فيه بتوقيع ابن هذه الأرض الطّيّبة السّليبة، “غسان كنفاني”، إنّه تحفةٌ أدبيّة تُثري مكتبتي المتواضعة، ولطالما استذكرت تفاصيلها، وتغنّيتُ بما تحتفظ به ذاكرتي من صورها المشهديّة التي عزّ نظيرها، لا يسعني إلّا أن أحتفي بيوم الأرض على طريقتي، وعبر إضاءةٍ موجزة على بعض المقتطفات من قصّة تضمّها دفّتا هذا الكتاب، وتحمل عنوان: “خيمة عن خيمة تختلف”.
لا زالت كلّ صورة رسمها كنفاني لأمّ سعد- بطلة القصّة- محفورة في أقانيم وجداني، كيف لا وقد برع في وصف ملامحها ومفردات شقائها ونضالها وعذاباتها، ليكون للدّمع حكاية متفرّدة بحدّ ذاتها، كما يصفها ذات صباح ماطر: “في عمري كلّه لم أرَ كيف يبكي الإنسان مثلما بكت أمّ سعد، تفجّر البكاء في مسام جلدها كلّه، أخذت كفّاها اليابستان تنشجان بصوتٍ مسموع، شعرها، وشفتاها، وعنقها، ومزق ثوبها المنهك، جبهتها العالية، وتلك الشّامة المعلّقة على ذقنها كالرّاية: كلّها تقطر دموعاً، أمّا عيناها فلا”.
لقد استطاع “غسان كنفاني” عبر عفويّة أمّ سعد وسذاجتها في التّعبير، أن يختزل لنا صورة المرأة الفلسطينيّة المكافحة، التي، وإن لم يُتَحْ لها أن ترتاد المدرسة، ففطرتها تدفعها لتنشئة فلذة كبدها ليكون فدائيّاً نذر روحه لاسترداد أرضه المغتصبة بدافعٍ من قناعته المطلقة بقضيّته العادلة: “أنت تكتب رأيك، أنا لا أعرف الكتابة، ولكنّني أرسلت ابني إلى هناك حيث رفاقه المقاتلين، قلتُ بذلك ما تقوله أنت، أليس كذلك؟”.
إنّها أمّ سعد، أيقونة المرأة الفلسطينيّة التي تذوق الويلات من وحلِ المخيّمات وغربتها وذلّها، وتضع نصب عينيها حلم العودة الذي يضطلع به ابنها في الخيمة التي التحق بها مع رفاقه الفدائيّين، لتكون بالنّسبة لها خيمة مختلفة كلّيّاً بما تمثّله من قيم العزّة والإباء، هذه المرأة على بساطتها تجسّد مصنعاً للبطولة والفداء، يستقي منه الرّاوي “كيف يبتكر المنفيّ مفرداته، وكيف ينزلها في حياته كما تنزل شفرة المحراث في الأرض”.
هي ومضاتٌ من صورٍ يصعب حصرها، حفرت بصمة راسخة في ذاكرتي وذاكرة جيلٍ شاركني تجربة الغوص في هذا الأدب الغنيّ بالدّلالات والقيم، ولعلّي بما اقتبستُه من تلك القصّة الأمثولة، أتمكّن من أن أنقل للجيلِ الجديد عدوى الشّغف الذي كان ولا يزال، يدفعني لقراءتها مراراً وتكراراً، فثمّة أشياء كثيرة تموت بالتّقادم، باستثناء جوهرَيْن: الحبّ الكبير، وقضيّة وطن.
التاريخ: الثلاثاء30-3-2021
رقم العدد :1039