الملحق الثقافي:الهام سلطان:
بدأت الحكاية من بلدة مصياف الساحرة، التي تتناثر الصخور على ضفافها جداول عشقٍ تتعانق والسماء، وتجدل مع خضرة أرضها المغنّاة قصائد قرمزيه، ومضات شكَّلت ذاكرته الإبداعية، فكانت أبجديته، وألق مخزونة الصوري. إنه الشاعر والفنان «عبد الله السيد» الذي يجدر بنا وقبل أن نبدأ بذكر رسالته، أن نروي تفاصيل ما يبدأ بحكايته:
ألوانٌ في مسيرة إبداعه
درس الفلسفة في جامعة دمشق، وتابع دراسته في علم الجمال، ثم انتسب إلى كلية الفنون بعد مسابقة بالرسم، حيث درس في السنتين الأوليَّتين، التصوير وبعده الديكور والزخرفة. درس أيضاً النحت، وعلى يد الفنان «غياث الأخرس»، والنحات «محمد جلال». تخرج عام ١٩٧١ بامتياز شرف، وبعلامة 95% وقد كان مشروعه عن الأمومة، وعيِّن بعدها معيداً في جامعة دمشق.
وسع آفاقه وأوفد الى باريس لمتابعة دراسته، ثمّ التحق بجامعة السوربون الأولى لدراسة علم الجمال، وحصل على الدبلوم ببحثين «الحنِّية في البيت الدمشقي» و»فن الخط في اللوحة السورية الحديثة».
أنهى دراسته في باريس، وسجل أطروحة الدكتوراه «التطور الجمالي في التصوير السوري الحديث»، ليعود بعدها إلى حضن الوطن، ويدرِّس في كلية الفنون الجميلة بدمشق، مادة النحت.
تخرّجت على يده عدّة أجيالٍ من النحاتين، وتابع أعماله التشكيلية، متنقلاً ما بين النحت والقراءة والكتابة، والمشاركة في النشاط النقابي، إضافة إلى مساهمته في إصدار «مجلة الفنون الجميلة».
قصائد على منحوتاته
مثلما أبدع النحات «السيد» في الفن النحتي، أبدع في الفنّ الشعريَ، وكان أن جعله صلاة رتّل منها على إحدى منحوتاته:
«صلَّيتُ ركعتيّ عشقٍ
على جبلِ قاسيون
فطارتْ حمامتان
واحدةٌ فتحت بابَ المشرقِ
واحدةٌ فتحت باب المغرب
استلقيتُ في سفينةِ الشَّمس بينهما»
إنه ما نقشه على منحوتته التي أسماها: «سفينة نوح الدمشقي رقم ١»، وهي موضوعة في حديقة التجارة بدمشق.
منحوتاتٌ وقصائد وأبحاث
أما في المجال البحثي، فقد أنجز مجموعة من الدراسات، وخاصة عن التصوير السوري، وأهم تلك الدراسات: التشكيل السوري، مخطط منهجي، حيث عالج التشكيل السوري برؤيه تاريخية.
أيضاً وفي مجال الكتابة، ساهم في النقد الصحفي منذ عام ١٩٦٤ وعمل في الصحافة كمحررٍ في صحيفة الثورة، واستلمَ الصفحة التشكيلية، إلى جانب عمله رئيس قسم التحقيقات والدراسات.
لقد حلّق «السيد» في عالم النحت فأبدع، وكان من أهم منحوتاته: دمشق المتجددة، وتتألف من ثلاثة عناصر: امرأة، رجل، حصان، فالمرأة الولود تتفتح كزهرة سترمي بذورها، والرجل بتضامنه وتعانقه الشاقولي مع المرأة يمثل النهضة، والحصان بانكفاءِ الرأس، يتبصَّر بالجذر الحيوي، ويستجمع القوة، لانطلاقةِ السيرورة التطورية.
أنجز أيضاً، أعمال نحتية عدة حول الأمومة، رغبات جلجامش، عصفور يحلم بالبحر، وبورتريه لابن عربي. أيضاً، نصب «أبو تمام» و»الشهداء» و»صلاح الدين الايوبي» أمام قلعة دمشق، و»الطوفان» في مدينة المعارض بدمشق.
نوح الدمشقي.. روحٌ تجوب العالم
أنجز أربعة أعمال لدمشق. دمشق ١٩٧٥ في باريس.
نوح الدمشقي رقم ١ موجودة في حديقة التجارة بدمشق من عام ٢٠٠٠، وهي بشكل مستطيل، على كلِّ زاوية من زواياه، وجهٌ بشري، الأول صارخ مقلوع العين، والثاني صامت كبير الأذن، والثالث محزون ضيق الجبهة، والرابع غاضب مرفوع الحاجب، وعلى واجهتي المنحوتة، سفينة نوح الدمشقي، وله في أميركا، منحوتة سفينة نوح الدمشقي رقم ٢ عام ٢٠٠١.
الروح الدمشقي في معرض فرانكفورت» عام ٢٠٠٣، وهو عمل يتألف من قاعدة تمثل قلعة دمشق، وقد رُسمت على جدرانها ثلاثة وجوه إنسانية، منها (الزرد كاش) الذي أخذه «تيمور لنك» أسيراً، مع الذين قضوا دفاعاً عنها، وجه صارخ ومنذر، آخر ميت غامض الملامح، وثالث صامت ناظر بأسف، وعلى القاعدة شكلٌ إنساني لرجل ملتحٍ بثياب عربية، تتطاير عباءته، ويمسك بيد سفراً مفتوحاً إشارة إلى التاريخ والعلم والثقافة الممتدة الى الأمام، أما اليد الأخرى، فهي على مقبض سيف دُفع إلى الخلف، إشارة إلى الاستعداد للكفاح، حين لا يكون العقل والمبادئ الانسانية أداة العلاقات.
لقد عشق الفنان «السيّد» دمشق حتى الثمالة، وكانت أغلب نصبه عنها، لأنها بنظره:
«دمشق ليست مدينة حجارة، دمشق فضاء روحي وإنساني، خلاصة حضارة، روح متجددة في تيار الوجود الحيوي، ذاكرة الإنجاز البشري، رمزٌ مفتوح لا حدود له، أحمله رسالة بالمشاركة فيه».
رسالته الحضاريّة السوريّة لإنقاذ البشرية
نختم برسالته الحجرية: سفينة نوح الدمشقي رقم ٢ المرسلة إلى أمريكا، رسالة حجرية وزنها /١٤/ طناً، وصلت إلى مقرها في نهاية شهر أيلول، بعد انهيار البرجين ١١ أيلول. الرسالة التي أتت في وقتها. ذلك أنه يدعو فيها، لإنقاذ البشرية من طوفان الصراعات المذهبية والعنصرية ضد الشعوب، واستنفاذ الثروات الأرضية، وانتهاك الطبيعة بالتلوث.
تضمنت هذه المنحوتة لوحتين، إحداهما تمجد الحب من خلال تلاصق وجه امرأة ووجه رجل ليشكِّلان وجهاً واحداً، ولتعشعش الحمائم بأمان في الشَّعر المتطاير، والثانية تمثل عشتار قوة الحياة البانية والمغذية، وقد تآلف بموسيقاها الوحش المفترس، والحيوان الوديع «الظبي»، كما تجمع حولها إضافة إلى هذين العنصرين اللذين يمثلان الحياة الأرضية، العصفور الذي يستقر على كتفها، إشارة لعالم الهواء، والحلزون الذي يلامس مرفقها، إشارة إلى عالم الرطوبة والماء، ويحلق فوق هذه المنحوتة غراب.
إنها منحوتة، حملت تاريخ تكوينها الجيولوجي، كما حملت التاريخ الحضاري للإنسان، في منطقة حضاريةٍ اسمها سورية.
التاريخ: الثلاثاء30-3-2021
رقم العدد :1039