الملحق الثقافي:د. أيمن أبو الشعر *
ربطتني بمجموعةٍ من الأسماء الإبداعيّة الهامة، علاقاتٌ متفاوتة لكنَّ معظمها حميميٌّ وفعّال، وقد تركت أثراً جميلاً في نفسي، خاصة عندما كنت شاباً يشقّ طريقه في الأوساط الأدبيّة بصعوبة، وكان معظم الذين تعرفت إليهم آنذاك، يكبرونني لجيلٍ أو جيلين أو أكثر، وكانت أول علاقة صداقة نوعية في هذا المجال، مع الشاعر “محمد الحريري”، فقد بدأت تلك الصداقة عملياً، عندما كنت طالباً في الثانوي، وكان هو مدرِّساً للغة العربية في تلك الثانوية التي لم أعد أذكر اسمها. (ربما ثانوية الشرق) التي كانت بين الجسر الأبيض وعرنوس.
بعد بضعة دروسٍ فقط، نشأ حوارٌ نوعيّ مع “أستاذنا” محمد الحريري، الذي كان ودِّياً وطريفاً ومرحاً ومثيراً للإعجاب، وكان ماهراً بشكلٍ خاص في التطبيق البلاغيّ، وكان من البديهي أن آخذ رأيه في بعض نتاجاتي الأولى، فقدمت له بعد الدرس دفتراً صغيراً فيه عدد من القصائد، ورحت أنتظر بفارغِ الصبر الدرس القادم كي أسمع رأيه على انفراد، فأنا شابٌ صغير وهو إلى جانب كونه مدرِّسي، شاعر مشهورٌّ في حينه.. أذهلني موقفه الكبير المشجع دون أيّة كلمات مباشرة لي، فقد دخل الصف مبتسماً كعادته، وراح يسجل على السبورة أبياتاً من قصيدةِ “رحلة نيسان” عن عيد الجلاء، وكنتُ قد كتبتها لأول مرّة وأنا في الصف الأول الثانوي “ثم طورّتها عند نشرها بعد سنوات”. كتب “الحريري” الأبيات وأوغل في تحليلها بلاغياً، وخاصة البيتين اللذين تخيّلت فيهما غولاً يطلُّ في شهرِ الورود، يمنع الشّعراء من التغزّل:
ينسى التغزلَ بالمفاتنِ شاعرٌ.. ويطلُّ من أفقِ الصبابةِ غولُ
متباعدَ الأنيابِ نهمَ مخالبٍ.. يحدوهُ نحوَ النابضاتِ غليلُ
بعد أن اندمج الطلاب بالصور البلاغية، وتوغل هو في الشرح، وأنا صامت خَجلٌ مذهول، قال للطلاب قبيل نهاية الدرس: أتعرفون لمن هذه القصيدة؟ فراحوا يطرحون أسماء بعض الشّعراء الذين يعرفونهم، وهو يهزُّ رأسه بالنفي، ثم قال إنها للشّاعر “أيمن أبو الشعر”… تخيّلوا هذا التوجيه التربويّ التشجيعيّ الهائل، أستاذ يقول عن طالبه في الثانوية هذا الوصف.. كان من الحكمة والذكاء أن يضعني في عبارة واحدة، أمام مسؤوليّة كبيرة جداً، فهو لم يقل “هي أبيات من محاولةٍ شعريٍّة”، أو “من قصيدةٍ تجريبية لزميلكم”، بل قال “للشاعر”..
لقد كان موقفه هذا أوّل وأكبر تشجيع لي، ليس للمتابعة الجديّة وحسب، بل وللتفاعلِ الكبير مع مدرسيّ، الشاعر الجميل “محمد الحريري”، فسرعان ما تطورت الصداقة بيننا، خاصة أن أفكارنا كانت متطابقة أيضاً، فقد كان ذا ميولٍ يساريةٍ واضحة، وبتنا يزور واحدنا الآخر، عندما كنت في الجامعة، وأذكر أنه كان يسكن في منزلٍ يطلُّ على حديقة السبكي، وقد لفت نظري ذلك، فمعظم سكان هذه المنطقة من الميسورين، وهو لم يكن ميسوراً كما أعرف، لكني لم أسأله عن ذلك.. أحيانا كنّا نجلس على البلكون، وأستمع له بشغف، وألقي على مسامعه بعضَ أبياتي بوجلٍ، إلى أن غدوت في الجامعة، وبدأت المشاركة بالأمسيات، ومع بدءِ إصدار بعض مجموعاتي الشعرية، كنت أسعى وحين يتقصّد معاملتي كزميلٍ له، لجعله يدرك أنني ما زلت أعامله كأستاذٍ لي…
كان آنذاك، بديناً مميّز المظهر، له عينان زرقاوان وحاجبان كثيفان، ووجه منفوخ وشعر قليل، وكان رغم شكله الخارجي – الذي لا يقارب صورة فتى الأحلام الرومانسية – محبوباً من الجنس اللطيف، حيث كان جريئاً في شعره الغزلي، بتناولٍ رهيفٍ خفيف ومرح، ووصفٍ حركيّ في إطار النمط الكلاسيكيّ، وهو قد يوغل أحياناً إلى التابو، ولا تدري إن كانت هذه القصائد نتيجة تجربة واقعيّة، أم ابتكار للتعويضِ عن حالٍ معاكسة:
والنهدُ إن داعبتهُ يفرُّ طيفاً أرعنا
والخصرُ يُضني راحتي من ها هُنا أوها هُنا
والساقُ نسجُ النورِ أمسكتُ بها لو أمكنا
كانت أمسياته تستقطب جمهوراً ذوّاقاً، خاصة أن شعره متنوّع الأغراض، وكان له باع في القصائد الاجتماعية، بما في ذلك الإشكالات اليومية، كحالِ المدرسيّن وارتباطهم بالساعة الثامنة، للاستعجال نحو الدوام في المدارس وهموم الحياة.. كان يحدثني بشغفٍ أحياناً، عن مدينة حماة التي ولد فيها، ودرس حتى أنهى المرحلة الثانوية، وظلّ وفيّاً لها بصدقٍ وحنين، وهو وفيٌّ لأصدقائه أيضاً، وكان أوّل من دعاني للانتساب إلى اتّحاد الكتاب إبان تأسيسه، وكذلك صدقي إسماعيل الذي كان أوّل رئيس للاتحاد، والناقد محي الدين صبحي، وسعد الله ونوس، وكانت الحوارات حول أهميّة هذه الخطوة، تجري على قدمٍ وساق، وبعد حين، بتُّ أعمل في اتّحاد الكتاب الذي كان مقرّه في مبنى فرع دمشق الحاليّ، غير بعيد عن البنك المركزي، وحدث ذات يوم أن جاء “الحريري” إلى الاتّحاد، وكنت أعمل في نفس الغرفة مع الناقد محي الدين صبحي، فقرأ علينا قصيدة أعدّها للمشاركة في تأبين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وكان مطلعها إن لم تخنّي الذاكرة:
بيتُك المزروعُ في أطرافِ غابةْ.. لم يفارقْ بعد مثواكَ سحابَهْ
سألني أنا ومحي الدين عن انطباعنا.. استوقفتني القافية قليلاً فصمتُّ، وتذكرتُ كيف كان أوّل من شجعني منذ سنوات، ثم ابتسمتُ قائلاً: “جميلٌ أنت أستاذنا، مهارتك جعلت حتى الرثاء طروبا”، وأثنى محي الدين صبحي على القصيدة كذلك، وفي طريق العودة إلى المنزل، سألني محي الدين الذي كان يسكن في نفس المنطقة التي أسكن فيها، قرب الجسر الأبيض: هل أعجبتكَ القصيدة فعلاً؟..
قلت له: هو أستاذي حقاً، ولم أجانب الصواب حين ذكرتُ ذلك، ثم إن القصيدة من حيث بنيتها وصورها جميلة حقاً، ولكن لا أدري لماذا اختار للرثاءِ هذه القافية الطروب؟ ربما لأن شخصيته مرحة طروبة في بنيتها النفسية، القصيدة جميلة لكن القافية…
قال محي الدين: نعم قصيدة جميلة، وربّما كان من الأفضل فعلاً، أن يختار لها قافية أخرى …
كثيراً ما كنّا نناقش الأوضاع في البلدان العربية، ونتحمّس لأيِّ خبرٍ يشير إلى انتفاضةِ كرامة على الظلم، ويتلو كلّ منا ما كتبه حول الحالة المأساويّة للناس، حتى في استذكار عهود الاحتلال أو الهيمنة، فقد كان “الحريري” منسجماً مع نفسه وأفكاره، يلجُ في شعره كلّ ما تعايشه أحاسيسه بصدق وبساطة، وكان يرصد برهافةٍ صعوبة العيش على البسطاء، وما يعانيه حتى أطفالهم الذين يعملون بحثاً عن لقمةِ العيش، كما في وصفه لبائع الأسكا “البوظة”، الذي كان يدور أيام طفولتنا في الشوارع، وخاصة في الصيف، يحمل علبة مصنوعة خصِّيصاً لحفظ الحرارة، لكي يبيع القطع التي لديه، فيتناول أدقّ تفاصيل ما يعانيه هذا الطفل المرهق، وموقف الناس الذين يكادون يدوسونه بأقدامهم حين يغفو تعباً على رصيف الشارع، وفوق صندوقه، وقد كوت الشّمس رأسه:
راحَ يغفو طويلاً فوقَ صندوقٍ خوى إلا قليلا
هو طفلٌ كومةٌ مجهولةٌ صبّها الفقرُ ضياعاً وذهولا
ضمَّ خدّيهِ رصيفٌ ناعمٌ ذاقَ من وقعِ الخُطى عبئاً ثقيلا
راقدٌ والشّمسُ تكوي رأسهُ بعد ظلٍّ ظنَّهُ يبقى طويلا
وخطى الناسِ حوالي جسمِهِ قد تنالُ الجسمَ لو غالت قليلا
رغم الطابع الكلاسيكيّ، كان “الحريري” يبدع أحياناً في التكثيف، ويشكِّل صوراً معبّرة جداً في إطار السهل الممتنع، عن المدى المأساوي الذي وصلت إليه الأمور، يقول في رصدِ هذه المفارقات المأساويّة، من خلال استخدام تناقض ظاهر الصورة بمحتواها، فمقابل غزارة النيل يأتي الدمع، ومقابل العرس يأتي القتل:
فالنيلُ دمعٌ والفراتُ مناحةٌ.. والغوطتانِ تأوهٌ وحدادُ
هل عاودَ التتارُ غزوهم وهل.. دهمُ الرؤوسِ من السيوفِ حصادُ؟..
فالقتلُ عرسٌ والتشفّي فرحةٌ.. والزينةُ الأشلاءُ والأجسادُ
فرقتنا بعد ذلك دروب الحياة، فقد أدّيت خدمة العلم في حماة وحمص، وبعد الخدمة العسكريّة، انتقلت إلى حلب لأعمل كأستاذي مدرّساً للغة العربية، وكنت أتلقّف أخباره بين حينٍ وآخر، حيث قيل لي أنه نحل كثيراً، ربما نتيجة ريجيمٍ قاس، وربما نتيجة مرض عضال، حتى أن محي الدين صبحي قال لي، أن وزنه حين توفّي كان أقلّ من نصف وزنه حين كنّا معاً في اتحاد الكتاب.
ربما لم يأخذ “محمد الحريري” حقّه إعلاميّاً، لكنه كان مشهوراً نتيجة أمسياته وطبيعة قصائده وتنوعها الثرّ، وقد كَتب عنه بوفاءٍ وتقدير، الأدباء “محمد منذر لطفي” و”حسن جمعة” و”أيمن الحسن”، وأسعدني بعد ذلك أن الاتحاد جمع قصائده وأصدر ديوانه، وكتب مقدمته الشاعر الصديق المبدع “شوقي بغدادي”. لن تفارقني ضحكاتك المشهودة يا محمد الحريري الشّاعر، يا صديقي وأستاذي.
*شاعر ومسرحي ومترجم
التاريخ: الثلاثاء1-6-2021
رقم العدد :1048