الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
في ما مضى، وحين لم تكن الساعات قد عُرفت بعد؛ الحائطيّة منها والسواريّة والأيقونيّة، كانت مواعيد الناس تعتمد على بعض مظاهر الطبيعة: شروق الشّمس وغروبها، على الرغم من أنّهما يتغيّران بين فصلٍ وآخر، وشهر وآخر.. ولم تكن- تلك المواعيد- تُحدّد بالساعات والدقائق؛ كما قد تستخدم طريقة قياس أطوال الظلال بالأقدام أو سواها، تلك التي تتقاصر في الصباح، وتتطاول في المسار إلى الغروب؛ كما كانت الأحداث الكبرى، تربط أزمنة حدوثها بالطبيعة أيضاً؛ ككسوفِ الشَّمس وخسوف القمر، والثلجة الكبرى، والأيّام الحارقة، والعجاج، وانحباس المطر الطويل، والعواصف الهوجاء، والزلازل المدمّرة، والهطلات المطريّة المفاجئة بأوقاتها وغزاراتها؛ أو بالفصول والمواسم، والأعياد الطبيعيّة والدينيّة والمجتمعيّة، التي تتقاطع وتتطابق أحياناً؛ أو بأعمالِ بشريّة تحضّر للمواسم أو تجنيها؛ كالفلاحة والحصاد والدراس والتذرية والتتبين، وجمع الزيتون وعصره، ونضج العنب والتين، وقطاف القطن؛ وبأوبئة وجائحات: الحصبة، الهواء الأصفر، النزلات الصدريّة…؛ وتتعلّق أيضاً بفيضان النهر الكبير، أو جريان المسيل القريب المتواضع، أو جفاف الينابيع..، كما كان للأشهر المتحرّكة وفق التقويم القمريّ مكانها في التحديد؛ على الرغم من أنّها نفسها تحتاج إلى تقويم؛ لأنّها تعبر الفصول كلّها، وتكتمل دورتها في ستّ وثلاثين سنة؛ فرمضان مثلاً قد يأتي في أيّ فصل! كذلك بعض المناسبات المتعلّقة بها؛ كالحجّ وعيد الأضحى (الكبير)، وعيد الفطر، وسواها.
وفي الوقت الحاضر، وعلى الرغم من أنّك تعيش على وقعِ الثواني، التي تُزامن حركاتك مع الأجهزة والأدوات، وبإمكانك أن تحدّد التوقيت بدقّة؛ بمجرّد لمحة نظر إلى واحدة من ساعات الجدران أو المكاتب أو الأيدي، أو ساعات الدعايات المرفقة بصور وشعارات ورسوم وكلمات، أو من خلال هذه الشاشة المثبّتة في الركن، أو المحمولة في الجيب، أو اليد أو الحقيبة.. فإنّ هناك مواقيت أخرى، يمكن أن تحضر، أو تلاحظُ باهتمام!
فمع مرور الأيّام، وإذا ما قدّر لك التحرّك أو الوجود المتكرّر في وقت محدّد، ولمدّة زمنيّة تطول، يمكنك أن تربط حركة كثير من الكائنات البشريّة، التي تعرف أو لا تعرف، بأوقاتٍ تكاد تكون ثابتة؛ كالخروج من المنازل إلى المدارس والوظائف والمهن المتنوّعة؛ والعبور الماشي، أو انتظار إحدى الآليّات متباينة الطراز، وانفتاح أبواب محال ومكاتب، والانطلاق إلى الأراضي لأعمال متعدّدة.. أو في حال الإياب من هذه النشاطات، وسواها ممّا لا يمكن إحصاؤه.
وهنا تأخذ المواقيت أشكالاً مختلفة عن تلك التي تعرفها، أو تألفها، عبر الوسائل والأدوات، التي تتحرّك بآليّة من دون حيويّة ووعي.. وفي هذه الأشكال، يصبح للوقت صبغة بشريّة، وتتحوّل المواعيد إلى حالاتٍ إنسانيّة، لها معانٍ مختلفة، وأصداء متنوّعة، ومنعكساتٍ كثيرة..
فقد تغتبط لعبور أحدهم- أو إحداهنّ- من أمامك، أو للالتقاء به في مكان ما، مع أولاد ومرافقين، أو من دونهم، ينطلق من داره، أو يعبر الشارع، وقد تنشغل بحضوره المحدود، وتقدّر حالاته من الملامح، التي قد تظهر، والانفعالات التي تخرج بعفويّة، وقد تهتمّ أكثر بالتعرّف إليه، وتألف لباسه وإيقاع حركاته، وتفتقده، وربّما تسأل عنه في حالِ غيابه المؤقّت أو الدائم!
منهم من يلفتك أكثر، وتتعلّق به، ويصبح جزءاً مهمّاً من تفصيلات حياتك في هذا الوقت، وفي أوقات أخرى؛ في حال لا تفهمها، ولغاية لا تعرفها!
بهذه التنويعات، التي قد تُستعاد، وتتبدّل بنسب قليلة، يمكن أن يتحوّل موعدك الرتيب إلى حيويّ، ووجودك المقدّر والمفروض إلى حياة جديدة، وتتحوّل الساعة المشيرة أو الناطقة إلى ساعةٍ ملاحَظة أو متابَعة أو منتظَرة، وقد تنشدّ إلى أن تخرج في وقتٍ ما، لا من أجل عملك؛ بل من أجل رؤية فلان؛ بل فلانة! والالتقاء بأيّ منهما أو (مصادفته!) في لقاءٍ عابر، من الممكن أن يتكرّر، ويطول، في حافلة محدّدة، أو اتّجاه معلوم..
ويمكنك أن تقارن بين أحوال الناس، وإمكانيّاتهم، ومستوى معيشتهم، وهيئاتهم، ومواقعهم ومواقفهم العاديّة أو المسؤولة، المهتمّة والمنشغلة، أو اللا مبالية؛ من ينتظر آليّة عابرة قد تتأخّر، أو تأتي مكتظّة، أو تفوته إن تأخّر، ومن تنتظره آليّة من دون سواه، أو مع آخرين، ومن تنطلق به من أمام بيته، أو من داخل أسواره؛ من يذهب إلى مكان ما راجلاً؛ كما كنتم تفعلون في ذهابكم إلى المدرسة في الصباح، وعودتكم منها ظهراً وبعد الظهر، إلى من يذهب في سيّارة فارهة، مع مرافقين.. ربّما!..
قد يساعدك هذا التحوّل المهمّ في المواقيت، من الآليّة إلى الحيويّة، في مقاربة ظروف الناس، والتعرّف إلى أشكال الحياة، التي تمضي قربك وحولك، من دون اهتمامك بها من قبل، أو عدم ملاحظتها وتمييزها، وقد تصبح مألوفة؛ لأنّها تتكرّر، لكن، مع ذلك، تبقى لها آثار ومفاعيل وانفعالات متباينة، ومحاكمات عقليّة مستجدّة، قد تساعدك في إكمال مشوار الحياة المرصود بأكبر قدر يعنيك من المعرفة والتفهّم والاستنكار، وأقلّ قدر من الانفعال، وأكثر قدرة على التحمّل، وربّما يصل بك الأمر، بعد تنائي التسويغ والتسويف، وتلاشي الاقتناع، إلى اليأس؛ لانعدام العدالة، والتباين الفظيع في توزّع النعم والمعطيات، وتفاوتها بين مستحقّ وغير مستحقّ، والقنوط من تحقّقها في الأحياز القريبة والبعيدة، وإن كنت تحتاج إلى معايير مميّزة بشريّة، تطبّق هنا وهناك- للأسف- لتحديد ذلك.
* كاتب وشاعر وقاص
التاريخ: الثلاثاء8-6-2021
رقم العدد :1049