الثورة أون لاين – عبد المعين زيتون:
دخلت إلىٰ عالم القاص عفيف حمدان من بوابة ((العالم الثالث))، وخلت أنني خرجت للتوِّ من سجن عالم آخر وقد أطلت المكوث فيه، وعندما خرجت رافقني أسلوب القاص ليدلني على بيتي، وما إن وصلنا معاً إلى الباب وأخذنا ننقر وندق المنبِّه، دون جدوى، فالباب بقي موصوداً في وجهينا
فآثرنا المبيت على أرصفة ((العالم الثالث))..
وقصة ((العالم الثالث)) هي إحدى قصص مجموعته القصصية التي أعطاها ذات الاسم.
وأعتقد أن القارئ سيعيش مع قصص
المجموعة (باندول – كابوس – كاسيت – فيلم رعب – فنانة – الكنّة –
جنازة – كُم معطف- وجود – طرف الخيط – العالم الثالث – اغتيال كلب – إنسان)، سيعيش مع افتتان الكاتب بفكرة الإنسان بصفته عالماً متكامل الأركان، الإنسان الحالم تارة، والموظف تارة أخرى، والعاشق في كل مرة.. الإنسان بكل محتواه، ولذا فقد كتب القاص حمدان بلغة واقعية موشحة بجماليات الصورة والانطباع، حيث اصطدم <<إنسانه >>.
بمواقف الحياة العامة والخاصة، لكنّه حاول دائماً أن يضبط سلوك هذا <<الإنسان>> بمعايير الأعراف والتقاليد السائدة في محيطه الاجتماعي دون المساس بمشاعره وأحاسيسه التي رفع من شأنها بأسلوب شائق
حتى وإن بدا سلوكاً بكل قصته ضعيفاً هشاً ومثيراً للاشمئزاز أحياناً (كما كان الحال في قصته العالم الثالث)، والتزم الدفاع عن أبطال قصته، كما لو أنه يعرفهم بالحقيقة.
لكنّه عبّر بإتقان ومهارة عن ظروف أبطاله – كما لو أنهم أصدقاؤه – وحرص كل الحرص على ملامسة إحكامه السيطرة على انفعالاتهم وتوجهاتهم وآرائهم وسلوكاتهم، ليبقى القارئ مشدوداً لكل كلمة في كل القصص، لا بل ونقله ليكون مشاركاً في خلق الشخصية وإدراك الموقف العام الذي يحرك الحدث حيث كان.
لقد اختفت في أسلوب الكاتب الرشيق الحدود في استخدام المفردة القصصية ولغتها، الفروقات الإبداعية التي اشتغل عليها في مجموعته القصصية.
أسلوب قصصي وتقنية لا يلمح فيها القارئ الخيط الرفيع بين وظيفة القصة وهدفها وتلك التلقائية والعفوية والبساطة.
العفوية التي لم تقف أمام ملكة القاص النادرة -لا سيّما وهو يصف حالة الهيام وانتظارات العاشقة لمحبوبها في قصته الأولى <<باندول>> – وتمكن من تصوير واقع الحبيبة في بيتها، وأخذ يستنطق الأشياء الموزعة في أرجاء البيت بلغة شفيفة، إلى أن وصل إلى الجسد فشكّل من تضاريسه قصائد نثرية بديعة:
((رتبت أثاث المنزل بعناية، فرشت وسائد الورد، والمسك فوق السرير، حلحلت عُقد الكلْس المزمن، نزعت قيد نهديها ورمته أرضاً يرنو إليها بعينين ذابلتين!
خلعت قضبان السنين المسمَّرة بأزرار ثيابها وهدمت أسوار تابوهات الجسد العذري بعد أن مزقت غشاوة غشاء العنكبوت عن مغارة السواد في عينيها)).
لقد كتب القاص حمدان ببساطة وتلقائية ودون تكلّف، حتى لكأني خلت نفسي في كل قصة من قصصه أمام فضاء درامي لا أشاهده وحسب، بقدر ما كنت جزءاً منه.
واتسمت قصص المجموعة <<العالم الثالث >> بنهايات مفتوحة، وضع الكاتب قارئه أمام أفق بلا حدود تاركاً له حرية التأمل والرؤيا، فيما آلت إليه أحداث القصص، وحوارات أبطالها وانفعالاتهم وأحاديث أنفسهم ((المنولوج))، دون أن يتدخل أو يصدر أحكامه عليهم، كما لو أنه كان مجرد شاهدٍ عليهم وحسب.
بقي لي أن أشير هنا إلى أن مجموعة القاص عفيف حمدان جاءت في (١١٥) صفحة من القطع المتوسط، وهي صادرة في تونس عن دار ((ديار للنشر والتوزيع)).