الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
مثلما كلّ يوم، تَحلَّقَ ملائكتي الصّغار حولي لأقرأ عليهم حكاية جديدة، اخترتها من مكتبتي ولا زالت تختزنها ذاكرة طفولتي بكلّ شغف ومحبّة.. كنت قد عزمتُ على اتّباع أسلوبٍ جديد في القراءة، حثّني عليه الحال المحبط لجيلٍ من الطّلبة بالكامل، جيلٌ يجهل غالبيّته أبسط معاني المفردات الفصيحة، بسبب عزلته التّامّة عن عالم القراءة.. وحرصاً منّي على بناء تراكمٍ معرفيٍّ لغويٍّ في ذاكرة كلّ من أطفالي، قرّرت ألّا أسرد القصّة عبر تحوير الجمل الفصيحة إلى العامّيّة التي تكون أقرب إلى عقولهم وقلوبهم، بل أقرأها كما هي، ولضمان عنصر التّشويق لا ضير من إعادة الجملة ذاتها بالعامّيّة، مع سؤالٍ يتضمن شرح المفردات: «ماما من يقول لي ماذا تعني «حُجْرَة»؟ ليجيبني أحدهم: «كهف»، ويجيب الآخر: «بيت»، فأوضح في النهاية أنه اقترب من المعنى، فالبيت فيه حجرة أي غرفة، وهكذا دواليك.
تابعتْ القراءة وعيون أطفالي معلّقة على الصّفحة، وأيديهم الصّغيرة تمسك بالصّفحة الأخرى لانتزاع زمام المبادرة في تقليبها استعجالاً للأحداث، لدرجة أنّهم في بعض الأحيان، تململوا من محاولتي قراءة أفكارهم وتوقّعاتهم للتّالي من الأحداث.
القصّة كانت بعنوان: «البلبل يحبّ الورد» للكاتب المصريّ محمد عطيّة الإبراشيّ، وهي قصّة ذكّرتني بإحدى الأساطير القديمة، وتسردُ محاولاتٍ يائسةً لفتاة صغيرة، تسعى لشفاءِ جدّتها من مرضٍ احتار فيه الأطبّاء، ليدلّها في نهاية المطافِ، شيخٌ حكيمٌ على سبيل وحيد، وهو أن تجد وردة حمراء تشمّها في زمنٍ لم يكن قد تواجد فيه الورد الأحمر بعد، لتبدأ رحلة البحث عن تلك الوردة بين أزهار حديقتها الغَنّاء، ولكن دون جدوى.. وبعد تفاصيل شيّقةٍ، يتطوّع البلبل الغِرّيد للبحثِ عن أسبابِ فرح صديقته الصّغيرة -شفاء جدّتها الحبيبة- فهي كلّ من بقي لها بعد موتِ أبيها ثمّ أمّها.
يسأل البلبل كلّ أشجار الورد عن إمكانيّة منحه وردة حمراء لصديقته، فيجبنه أنّه من المستحيل الحصول عليها، إلى أن تدلّه إحدى شجيرات الصّحراء على نبتةٍ تنمو تحت نافذةِ حُجرةِ الفتاةِ سيجدُ لديها ضالّتَه، وبالفعل يذهب البلبل إلى تلك الشّجرة شارحاً مطلبه، فتخبره أنّها ستهبه الوردة ولكنّ الثمن باهظٌ جدّاً، فيوافق دون أدنى تردّد.. إذ يتوجّب عليه أن يأتي إلى الشّجرة عند ظهور القمر وقبل انبلاج الصّباح، ويرتمي على أشواكها غارزاّ قلبه لتمتصّ الأشواكُ دمَه رويداً رويداً، فتنبت زهرة صغيرة ويستمرّ في الضّغط مكابراً على ألمه، لتصطبغ الزّهرة شيئاً فشيئاً بالأحمر، وتتحوّل إلى تلك الوردة المنشودة قبل أن تبزغ خيوط الفجر الأولى.. وحين تخبره الشّجرة أن مهمّته قد نجحت، لا يجيب بشيء لأنّه يكون قد مات، وتصحو الفتاة صباحاً لتطلّ من نافذتها، وتفرح غاية الفرح برؤية الوردة الحمراء التي تشفي جدّتها، وينبت الورد الأحمر منذ ذلك الحين، تخليداً لذكرى البلبل الشّجاع.
قد تبدو القصّة قاسيةَ المضمون بالنّسبة لأطفال بعمر السّادسة والسّابعة، ولكنّ ما عاصره أطفالنا خلال الحرب يفوق كلّ قسوة.. ومن العسير تجاهل إسقاطٍ على ما نعيشه اليوم.. أَوَليست حكاية البلبل تشبه ما يجري في بلادنا؟.. ألا تروي شقائق النّعمان آلاف الحكايا عن شهدائنا الذين رووا الأرضَ بدمائهم ليهبونا الأمان وراحة البال، كما وهب ذلك البلبل السّعادة لصديقته!.
الملفت والموجع في نهاية هذه القصة، أنها لم تُعجب الأطفال بسبب نهايتها الحزينة.. قلتُ لهم عندما أبدوا رأيهم هذا: نعم يا صغاري، هي حكاية حزينة، لكنّها أشبه بحكاياتنا في بلادي الثّكلى بخيرةِ أبنائها، ممن احتواهم ترابها الطاهر، فضمّخوه بالأحمر.
التاريخ: الثلاثاء22-6-2021
رقم العدد :1051