دهشـــــةُ الجـــــذبِ..

الملحق الثقافي:عمار حسن*

تمضي حياتنا ونحن نبصر الأشياء، دون أن ننتبه غالباً أن العين كأداة رؤية، يمكن أن تتجاوز أبصار المحسوسات، إلى المحدوسات، فهي حاسة تلقي الصور، ولكن ماذا عن التصوّراتِ الكامنة في الصور!؟.. تلك التصوّرات التي تحملها اللوحة، وليس كلّ من رسم، حملَتْ لوحته تصوّراتٍ خارجة عن حدودِ الذهنيات والمواضيع الجاهزة والتقليدية، ففي الفن؛ أن تدرك حرّيتك وحقيقتك فتلك هي البداية، حقيقتك بعيداً عن الموروثات والذهنيات المجتمعيّة، وعوالق تهذيبِ وترويض الأنا، والفنّ والحبّ طريقان لهذا التحرّر.
عندما تُشبَع بالحبّ، ستعرف طريقك إلى وعيٍ مضاف، فكيف عندما تستطيع تكثيف الحبِّ والوعي، وتطلقُكَ ريشتك إلى الأعلى، لترى ما هو أكثر وتستطيع مقاربته بالصور؟..
عندما تصبح وتصوراتِكَ كلّاً ملوّناً، وتصبح لوحتك أثيراً أو وسيطاً للرؤية، كما اللوح، أوَليس اللوح لغويّاً هو كلّ ما بين السماء والأرض؟. وبمجازٍ تصوريّ تكون اللوحة بمثابة اللوح..!
أن تأتي برؤياكَ إلى بياضِ اللوحة، وتكونَ امتداداً لتلك الصور، فلا بدّ أنه استثناء، أو طاقة تناغمت مع اهتزازاتها فكنتَ اللوحة، هذه الحقيقة الوهم لامستكَ، بل لامَستَها حين اشتدّ وهجُها فيك، فرأيْتَ بقلبكَ فاهتزّ البياضُ لهذا، فكان اللون، ولأنك عرفتَ مسارك إلى النبع كانت الدهشة!. النبع ليس نهائيّاً كمكانٍ نصل إليه فنرتوي، إنه زمان! عودة إليه، إنه اللا ارتواء واللا سُكنَ بلقاء، بل اندفاعٌ في مساراتِ ينابيع الإشراق، فهل تتوقف موسيقا الغبطة؟ نغمٌ وتناغم، ماءٌ ولونٌ وضوء يساكنهما كسماعٍ وبوح، أوليس اشتهاء أن نقعَ في هذا السحر؟.. وليكونَ الجذبُ إلى الأعمق، الأعلى، والأكثر، لا بدَّ وأن تستطيعَ الرؤية كمتلقٍّ لهذه السياحة، والرؤية هنا جزءٌ من معرفتك الغافية فيك، أنت هنا تستيقظُ من مجرّد الإبصار إلى البصيرة، وما إن ترى حتى يدهشَك أنك رأيتَ بأكثر من عينيك، فتقول من دهشةٍ: يا الله..!
تُطلقها وكأنّ قلبَك يلامسُ قلب الكون، دهشةٌ تولّد موسيقا تشدّك إلى الإيقاع فلا تدركُ كيف تصبحُ لحناً من رأسك حتى قدميك، تتحوّلُ إلى أثيرٍ أو طاقة، فتغادرُ مادتكَ، وتندفع في المسار الملوّن بذاك الدوران الذي يوازي سرعة الفن، فهل أنا أتحدث عن الفنان أم عن المتلقي الذي استطاع الاتصال، حتى أنه يختلط عليّ أن أفرّق لحظة التلقي والاتصال عن الفنان الذي ألقى ما تلّقى، أوليسَ الفن الحق هو الذي يمزج التصوّر بالصور، ثم يُلاقح بها زهور وعي الآخر ليُرسَمَ الطريق ويثمر!؟.
ماذا يعني أن تمتزج تصوّرات الفنان بالصور؟.. يعني صدق تحقق الذات، من خلال اللوحة، واللوحة ذاتٌ أو مرآة مصقولة وعاكسة لها، وماذا يعني أن يتحقّق هذا بجمالٍ فنيّ استثنائيّ، معنى هذا كفنان أنك استطعتَ أن تتجاوز ماديتك وحسيّاتك لتكون أثيريّاً وزمناً يهتزُّ للنغم، كما الوترُ لنقر العازف، عندها أنت طاقة، والطاقة في الكون لا تفنى، وصحيح عن وهم أو عن حقيقة، أن الفن يقتل الموت، كما الوتر الذي يصاب بتلفٍ فيفنى، إلا أن اللحن هو ما يبقى فهل هذا وهم؟!.. وهل نحن قادرون على تلقي ذات الدهشة وبذات السويّة، من نوعيّة الفن الذي أحدثها أو أحدثَتْهُ، وماذا ينقصنا لنرى ونتواصل؟..
لن ننجذب لشيءٍ لسنا من صنوِهِ، كما أننا لن ننجذب لحجر، ولكن عندما تمسّه يد الفن فإننا سننجذب، فنحن هنا لم ننجذب للحجر بل للفن، للصورة والتصوّر الذي يسكنها، وكلّما كان التصوّر أعلى في الإيقاع وأعمق، كلّما كان الانجذاب أكبر ولكن ثانية، كيف ننجذب دون قدرة على التذوّق، فالذوق هنا أوّل درجات تلقي الوعي، ولكن ثالثة، كيف يتشكّل؟!.. لابدَّ من اهتزازٍ قوي يجعلنا ننتبه، جذبٌ ما يجعلنا نسكن، صورةٌ ما تجعلنا نرى من خلالها تصوراتها، فتشعل تصوراتنا، فالروح بطبعها باحثة عن الجمال وعن صورها وانعكاسات هذه الصور، وهذا يعني أن للروح مساربَ رؤيةِ عبر البصر، فهي باحثة على الدوام عن الجمال والحق، وما إن تراه حتى تنعكسَ لذاتِها، فترى هذا الجمال الذي يسكنها كروحٍ كلّية، وكلّما تنقّت وصُقِلَتْ هذه المرآةُ عبر الذوق، كلّما انجذبَ ذاتُها الجزء إلى ذاتِها الكلّ أكثر، وكلّما كان الجذب أعلى، كلّما كانت الدهشة أشد اهتزازاً، فالأرواح الشفيفة أكثر قدرة على الإدهاش وتلّقيه، والإدهاش هنا وتلّقيه، ما هو إلا صورُ الروح في صفائها الزمني، في جوهرها الذي هي عليه، وهو هنا الجمال الذي نتعرف إليه من خلال الفن الذي قوامه الصورة، ليس الصورة الواقعيّة بالضرورة والا لكانت المعرفة انتهت، ووصلنا إلى نهائيات الوعي؛ الأمر يشبه تجدّد ماء النهر ولكن بمقاربةِ أثير الصور التي تطفو في اللوحة، وتطفو مقاربةً مناسبةً للتصوٍرّات الزمنية، والتصوّرات «الفكروحية» الفكرية والروحية، وهنا أفصلها عن التصوّرات الذهنيّة أو الموضوعيّة، لأنها ذات أساس ذوقيّ وحدسيّ.
أن تصل التصوّرات إلى هذه السويّة من التصوير الفنيّ، أو الجمال الفنيّ، يعني أن الفنان استطاع نقل حدسه ورهافة ذوقه إلى لوحة «أي صورة» ممتلئة بالمعنى أو إشارات المعنى، بتعبيرٍ آخر، استطاع نقلها إلى فضاء حسيّ كصورة، وفنيّتُها العالية هي ما سيدهشنا ويجذبنا لنرى ونتلمّس الضوء الزمني، لينعكس في عتمِ أرواحنا إذا كانت لاتزال معتمة لنراها، وهذا يفضي لمعرفة ذواتنا، وهي الغاية.
الدهشة في أعمال الفنان «ياسر حمود» ترتقي أكثر فأكثر، وهي سمةٌ لطالما صقلتها تجربته الفنيّة لأكثر من ثلاثة عقود، حتى وصلت إلى هذه السويّة من التجريد التصوريّ الحدسيّ، وهو اقتراح تصنيف للتجربة على شاكلة التجريد الحسيّ أو التجريد التعبيريّ الغنائيّ، أو التجريد الهندسيّ النقائيّ، دهشةٌ تتولّد عن سياحةٍ روحية بصيريّةٍ ذوقيّة قوامها الغوصُ الزمنيّ في الذاكرة الكلّية، أو محاولاتُ التحليق أكثر في هذه العوالم، ليغرف منها جمالاً إلى ذاته اللوحة، التي لا يرسمها بقدر ما ترسمه، وبقدر ما تكون متّسعاً لاتسّاع تصوراتِه ورؤاهُ، بقدر ما تكون طاقةً لإزاحة كثافات الحجب، فاللوحة لم تعد جسداً كتيماً بل أصبحَتْ مع الزمن أكثر شفافيةً، حتى أنّ خامة اللون تحوّلت إلى أثيرٍ نوشك أن نرى ما بعده أو ما وراءَه، ليس لأنه يشفّف اللون كخيار تشكيليّ وفق مقتضى التعبير والرؤية الفنيّة، بل لأن التشفيف جزء من الاستنارة الواعية، من خلال تخليص اللون من كثافته المادية، وهذا الأمر ينطبق على الارتعاشات الخطيّة الحرّة، والحفر الغائر في اللون. إنها إشارات أثيريّة ليترنّم الضوء بإيقاعٍ يحوّل مساحات اللوحة وأجزائها، إلى عزفٍ موسيقيٍّ لونيّ وبصريّ متشابكٍ ومتطابق، ما بين الفنان ورؤاه وتقنياته، بإيقاعٍ منسجم يجعل الهناكَ والهنا والآن، كلّاً واحداً، ما يُحدث ارتعاشاً طاقيّاً يتجاوز المألوف التشكيليّ، وهذا ما يجعل اللوحة أكثر من لوحةٍ، لتحمل كلّ هذه الطاقة الجاذبة للدهشة، أو المدهشة بطاقتها الجاذبة.
الجمع السيميائيّ لمفرداتِ اللوحة، وهي ليست مفردات محدّدة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل إشارات بصريّة، وحركة خطّ ومساحات لون، وإشباع وتشفيفٍ لونيّ، كلّ هذا بجمعِه يعطي الانطباع والصورة والمعنى، لا بل والاتصال مع التصوّر وكأنك في الزمان والمكان الخاص داخل اللوحة، وهذه اللوحة مثال على كلّ ما سبق، إذ تشدّك إلى داخلها عبر دربٍ خطيٍّ، محفوف بإشاراتٍ لونيّة ترابيةٍ، لتحددّه كمسارٍ إلى بؤرة العتمة في منتصف اللوحة، وكأنها كهفٌ للتنسّك وإقامة الصلاة، أو كثقبٍ كونيّ أو معرفيّ سيقود الروح إلى زمنٍ آخر لا يقاس عليه زمننا، وعلى جانبي هذا المسار، يكون الأزرق والأبيض والترابيّ، وكأنها إشاراتٌ لعالمٍ مرئيٍّ لما يقعُ قبل هذا الكهف المعتم، أو الثقب الأسود لو اتفقنا على التوصيف، فكأنّ التصوّر والصورة يذهبان في اتجّاه التخلّي عن الأرضيّ، إلى ما هو أكثر بعد ولوج هذه البوابة الزمنيّة، والتي من خلال الصياغات اللونيّة على استداراتها من منتصف اللوحة إلى الأعلى، متدرّجة من المعتم إلى المشرق، وتأخذ العين لرؤية ما يشبه الصخور الكريستالية في ضخِّها للضوء وعكسه، وفي حدودها وثلاثيات أبعادها، عبر ضرباتٍ ملتوية ولينة وحادّة، بأدواتٍ مختلفة لتشكّل هذا التجسيم والليونة بذات الوقت.
أما دلالات ألوان هذه الصخور، فتأخذنا إلى الشرق الأقصى للباس الرهبان بتدرجات ألوانها حسب درجاتهم العرفانية، ما يعني أن الفنان هنا يتقصّد هذا الدخول إلى كهفٍ يظلِّله هذا المعنى، عبر عتمةٍ تفضي في الأعلى إلى أصفر شمسيّ، عاموديّ التشكيل وشفّاف، وكأنه يُظهر ما بعده من حرارةِ الوعي والرؤى كمعراج إلى الإشراق، أما الخطوط الحرّة الغائرة في اللون، فهي انعكاسٌ لهذه الغبطة التي بلغت هذا التصوّر، فهنا الفنان لا يرسم بل يعانق اللون وكريستال الصخر، ويغرس أظافره فيه بوحشيّة وذوق المتصل حدّ الانتشاء.
«ياسر حمود» هنا، يخرج عن صور التصوّف والدوران التقليديّ، لأنه يحيا عرفانتيه وغبطتها، لذاك الحدّ الذي يمكّنه من التعبير عن هذه الغبطة بهذه الفنيّة، التي تصوّر عطر الوردة وليس جمالها وحسب، الأكثر أنه يصوّر عطراً نراه ونسمعه، يصوّر عالماً أثيريّاً مترفاً بالوهم حدّ الحقيقة، لدرجة أننا نراه ونصدّقه.
اللوحة للفنان «ياسر حمود».. القياس: 140 ×140. الخامة: أكرليك على قماش.. زمن الإنجاز: 2021.
* فنان وناقد تشكيلي

التاريخ: الثلاثاء29-6-2021

رقم العدد :1052

 

آخر الأخبار
مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار