الثورة أون لاين – علم عبد اللطيف:
هي أيديولوجيا الحداثة، أو الأيديولوجيا الحداثية، طبعت الحياة الأوربية بطابعها الكلي، وغزت الميادين المختلفة للحياة، فكانت بمثابة الفكرة الشاملة التي استمدت منها كل جوانب الحياة الأوربية، وتاريخياً كانت فكرة الحداثة قد انتشرت في كل الميادين الثقافية والفكرية والحياتية بطريقة التتابع والانتقال، كنزعة عقلية شاملة، مسلّحة بالعلمانية التي لم تنه مرحلة النزاعات الدينية من المجتمعات والحياة فحسب، بل أقصت النزعات النزعات الشخصية في المعتقدات، بحيث استبقت بفضل المناهج العقلانية على منتجات النشاط العقلي المرتبطة بالكلي الحداثوي كما يشير الآن تورين في كتاب نقد الحداثة، واقترنت الحداثة والعقلنة كما يقول تورين: (ترتبط فكرة الحداثة بالعقلنة ارتباطاً وثيقاً، والتخلي عن إحداهما يعني رفض الأخرى).
إن امتداد العقلانية في الحياة الأوربية هو الذي أنتج الحداثة وليس العكس، فلا توجد حداثة مستقلة عن العقلانية، في حين أن وجود أنماط من التحديث غير مرتبطة بالعقلانية أدى بهذه الأنماط للانهيار في أكثر من مكان في العالم، كما في محاولة محمد علي باشا في مصر في مطلع القرن التاسع عشر، تحديث لم يرتكز على هيمنة العقل، من نقد الثقافات التقليدية وإقصائها لصالح أنماط ثقافية حداثوية متستمدة من أنوار العقل الذي وسم مرحلة (الأنوار) في أوروبا في القرن الثامن عشر، عصر النزعة التاريخية، وكانت فلسفة التنوير الفرنسية هي الأساس الذي استندت إليه عقلانية الحداثة المنتصرة.
هيمنة العقل اتخذت سيادة القانون الذي يعني سيادة الكلي في المجتمع، ويدفع بالديني إلى حياة الأفراد الخاصة، وهي الحداثة ذاتها التي سمحت بمناهج لنقد العقلانية والعقل الأداتي (مدرسة فرانكفورت).. والموقف من مفاهيم العقل والعقلانية وتحول التنوير وفلسفته إلى أسطورة أقرب إلى الخرافة.
والحقيقة أن في مفهوم الحداثة العميق ما يجب القول بسقوط الحداثة، فهذه ليست معطى ثابتاً أو منجزاً متعالياً وجد للعبادة والأسطرة، بل للإيغال والمضي في التحديث كلحظات لا تنتمي أي منها لسابقتها، بل تخلق مشروعيتها زمنياً وفق مفهوم التجدد الدائم وفتوحات العقل المفتوح، فهي دال منقطع عن سلفه، حدث لذاته، أو نوع من اللاهوت المفارق أو المنقلب أو المتحرر، ولادة من غير أبوّة أو أمومة، وحضور بلا تاريخ، ووجود بلا ذاكرة أو معنى متراكم.
والحداثة بهذا المعنى هي فعل منعكس على نفسه، يبدع فاعله ثم يلغيه ليستمر حداثة من غير تكرار، فالحداثة زمان تجاوزي يستعصي على التقليد وفق تعبير (مالكولم براد بري.
والحداثة مكان، فهي أيضاً دال مكاني ينكشف عن مكان مغاير لا يقبل المطابقة مع الأمكنة الأخرى ولا التمثل فيها ولا المشابهة معها، حيز تام الإزاحة وقطيعته الكينونية كاملة، يقول بيتر بروكر في كتابه الحداثة وما بعد الحداثة.. ت د عبد الوهاب علوي- منشورات المجمع الثقافي -الإمارات العربية المتحدة 1995 (إن كلاً من الحداثة وما بعد الحداثة يعد ظاهرة تميز الثقافة الأنجلو أميركية والأوربية في القرن العشرين في المقام الأول).. وحقيقة أن المدينة تعد مكاناً فيصلاً تتجلى فيه مقومات الحضارة والحداثة، وفيه تتمايز، ويعود ذلك إلى التكوين نفسه ونوع الفاعلية التي يتميز بها كل فعل في علاقته بالمدينة، من حيث أن مدن الحضارة هي مدن مؤسسة، كما هي مدن الحداثة، فالمدينة من حيث التكوين تعد حدثاً حضارياً، بينما في الحداثة فإنها تعد من حيث الإنشاء والتكوين حدثاً مدينياً.
إن الحضارات في العالم غير الغربي قد صنعت المدن، وفي الغرب صنعت المدن الحداثة، لذلك يكون الحديث عن الحضارة وعن المدن مختلفاً من حيث مكوناتها العقدية، وانساقها المفهومية، تمثل فعلاً مبدعاً ومكوناً، تنعكس فيه صورة الفعل الحضاري المبدع والمكون، والأمر ليس كذلك بالنسبة لمدن الحداثة التي يكون فيها الحال عكس مدن الحضارة التي تحتل فيه مدن الحداثة علاقة ومسؤولية الفعل المبدع، في حين تحتل الحداثة بالنسبة للمدينة الفعل ذاته مكوّناً.